قارون والنهاية الخاطفة ( 2 من 2 )
﴿فَخَسَفْنا بِهِ وَبِدارِهِ الْأَرْضَ فَما كانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَما كانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ (81) وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا لَخَسَفَ بِنا وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ (82) تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَساداً وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (83)﴾ القصص.
قلنا بالأمس أن الأمور بخواتيمها. و أن هذا ما غاب عن قارون لأنه كان مشغولا بثروته وزينته، وغاب عن أولئك الذين استحبوا الحياة الدنيا، فمدوا أعينهم إليها فأعمتهم ، كما تناولنا هوان المجرمين على الله و عذاباته المتنوعة التي يأخذهم بها ، حتى انتهينا إلى التسليم بواقعية عجز كافة الوسائل والقوى الدفاعية الخارجية والذاتية التي يتحصن ويعتز بها الإنسان عن منع وقوع العذاب حين حلوله. (فَما كانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَما كانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ).
و اليوم أقف على ما تبقى في هذا الصدد :
- يحتاج الإنسان الفرد أو المجتمع أحيانا لصدمات عنيفة تعيد له توازنه. والمهم أن لا يتبلد فيه الإحساس فيفقد القدرة على التفاعل مع الأحداث والمنبهات من حوله. يقول تعالى: ﴿فَلَوْلا إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا تَضَرَّعُوا وَلكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ ما كانُوا يَعْمَلُونَ﴾ الأنعام: 43
- الندم يمثل المرحلة الأولى من مراحل التوبة والعودة إلى الله. هذا ما يظهر من كلمة (وَي) التي تدل على التندم والتحسر والتعجب كما قال أهل اللغة.
- قيل في (كأن) أنها ليست للتشبيه هنا، وإنما جيء بها للتحقيق، كقول الشاعر:
وأصبح بطن مكة مقشعرا كأن الأرض ليس بها هشامُ
- وقيل:"ربما يكون خاضعا للإعلان عن الصدمة التي تلقّوها في مسألة مصير قارون التي هزّت قناعاتهم، فبدأوا يتراجعون تدريجيا، مما يجعل التعبير على سبيل التشبيه الذي يوحي بالاحتمال القريب جدا. وهو تعبير متعارف في ابتداء انكشاف الحقيقة، التي كان يرى خلافها، للإنسان، فيقول بعض الناس في ما كانوا ينكرونه، كأن المسألة كانت على غير ما نعتقد، واللّه العالم".
- قد يغفل الإنسان عن البديهيات، فتأتيه المنبهات لتزيل الغشاوة عنه، وسرعان ما يستعيد استذكار ما غفل عنه. لقد غفل أولئك عن كون بسط الرزق وقبضه بيد الله سبحانه، وأن البسط لا يعني كرامة المبسوط إليه عند الله، كما لا يعني القبض هوان المقبوض عنه.
- النجاة من البلاء منة وتفضل من الله سبحانه، فينبغي شكره عليها. كما ينبغي أن تكون موعظة تزجر الإنسان عن الاستمرار في الغي والضلال. وهذا ما أشار إليه الإمام السجاد في صحيفته المباركة في دعائه إذا ابتلي أو رأى مبتلى بفضيحة بذنب، حيث كان مما يقول:"فاجعل مَا سَتَرْتَ مِنَ الْعَوْرَةِ، وَأَخْفَيْتَ مِنَ الدَّخِيلَةِ، وَاعِظاً لَنَا، وَ زَاجِراً عَنْ سُوءِ الْخُلُقِ، وَاقْتِرَافِ الْخَطِيئَةِ، وَسَعْياً إِلَى التَّوْبَةِ الْمَاحِيَةِ، وَالطَّرِيقِ الْمَحْمُودَةِ، وَقَرِّبِ الْوَقْتَ فِيهِ، وَلَا تَسُمْنَا الْغَفْلَةَ عَنْكَ، إِنَّا إِلَيْكَ رَاغِبُونَ، وَمِنَ الذُّنُوبِ تَائِبُونَ".
- الكافرون الجاحدون بنعم الله لا يظفرون ببغيتهم من التمتع بالدنيا دون حدود. بل لا بد من منغصات ونهايات مكتوبة يعقبها الخزي والعذاب الأليم.
- الإشارة للبعيد في قوله ﴿تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ﴾ لبيان المكانة العالية التي ينبغي أن يتنافس من أجلها المتنافسون ويعمل العاملون. وأين دار قارون من تلك الدار؟
للفوز والظفر بالدار الآخرة شروط موضوعية ينبغي السعي لتحصيلها. وتتمثل في عدم إرادة العلو في الأرض أو الفساد فيها. فالمسألة ليست فقط عدم ممارسة الاستكبار والإفساد، بل عدم الرضا عن ذلك أيضا.
- ﴿وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾. هذه سنة إلهية ينبغي أن لا تغيب عنا طرفة عين، فإن للباطل جولة وللحق دولة. ربما تسير الأمور ظاهرا على غير ما نرغب ونريد، ولكننا إذا التزمنا التقوى والصبر ستكون النهايات دائما في صالحنا. هذا ما قاله يوسف لإخوته موضحا لهم سبب وصوله إلى ما وصل إليه بعد مروره بالعديد من التجارب المريرة والمكائد الخطيرة. ﴿قالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قالَ أَنَا يُوسُفُ وَهذا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ﴾ يوسف: 90