المثقف الملتزم والرجل الوطن
هل توقف الزمن عن إنجاب الأبطال والنابغين؟ هذا ما تصر عليه مناهجنا الدراسية، الأدبية منها والتاريخية. فحين تريد الحديث عن الشخصيات التي استطاعت كسر الأرقام القياسية في الإنجازات، لن تجد مفرا من أبي تمام الذي اختصر الطريق ووزع الميداليات الذهبية في بيت واحد:
إقدامُ عَمْرٍو في سَماحةِ حَاتِمٍ .. في حِلمِ أحنَفَ في ذَكاءِ إِيَاسِ
ذهبية الشجاعة منحها لعمرو بن معد يكرب، وذهبية الكرم لحاتم الطائي، والحلم للأحنف بن قيس، والذكاء لإياس بن معاوية المزني، وانتهى الأمر، كأن الأمة أصيبت بالعقم، ولم يفلح الطب الحديث بوسائله المتقدمة في القيام بتلقيح صناعي أو إنتاج طفل أنابيب يتفوق على أحد من هؤلاء. لا تذكر الكتب الدراسية أبطال الحجارة في فلسطين، أو الصدور العارية التي تحدت غطرسة الأنظمة الاستبدادية في الربيع العربي، ولا تتطرق إلى سماحة المضحين بأرواحهم في سبيل الحرية والكرامة، ولا عن حِلم الشعوب العربية التي طفح بها الكيل وهي تنشد التغيير وتنتظر الوعود التي لا تأتي، ولا عن الذكاء الحاد للطفل العربي، والذي يتناقص بعد الخامسة كما تقول بعض الدراسات لعدة أسباب من بينها المناهج الدراسية والبرامج التلفزيونية المخصصة للأطفال. فهذه النماذج لم تدخل ولن تدخل في المقررات المدرسية حتى إشعار آخر.
لذا أجد من الضروري الحديث عن أشخاص عاشوا بيننا؛ أكلوا من طعامنا، ومشوا في أسواقنا، ودفعوا ضريبة كبرى من غربة وسجن وسحب جنسية وشظف عيش من أجل الوطن وإنسان الوطن، لأن في ذلك بعض الوفاء لهم، ولتقديم نماذج معاصرة تفوقت في شخصيتها، وتوهجت بمُثُلها وقيمها ومبادئها.
من أولئك مثلا الأديب الكبير الأستاذ عبد الله عبد الجبار، الراهب في صومعة الحرف ، " الطود الشامخ الذي لا تهزه الأحداث, المعتز بنفسه في غير كبر, العالم الذي بلغ الغاية في تخصصه لغة وأدبًا ونقدًا, والمفكر الحر الواعي لمقتضيات عصره, والوطني المخلص الذي يحتضن الوطن في قلبه, كل همه أن يسعى بكل جهد لرقيه, أهله كلهم هم أهله الذي لا يفرق بينهم عصبية لمنطقة أو إقليم كما لم يعرف قط التفرقة لمذهب أو جنس." كما يقول عنه الكاتب المعروف عبد الله فراج الشريف.
وكتب عنه أحمد فقيهي: " عبد الله عبد الجبار رجل الوعي الأول لم يرتهن إلا إلى الكلمة.. الفعل والكلمة.. الموقف إنه «رمز في المعرفة» وقيمة في الفكر.. وقيمة في السلوك ونموذج للمثقف الذي لا يتلون.. ولا يداهن ولا يتبدل كان بارعا في تربيته.. ورائعا في ثقافته وبين تربيته وثقافته.. ثمة أجيال.. أصبح بعضها في مقدمة الصفوف تلاميذ الأمس يضيئون فضاء اليوم.. وكل ذلك بفعل رجل اسمه عبد الله عبد الجبار.."
عبد الله عبد الجبار (1919 – 2011) هو من رواد النهضة الأدبية والنقدية والعلمية والاجتماعية والثقافية. ألف مبكرا في العام 1959 كتاب (التيارات الأدبية الحديثة في قلب الجزيرة العربية)، واشترك مع الدكتور محمد عبد المنعم خفاجي في تأليف كتاب (قصة الأدب في الحجاز في العصر الجاهلي) الذي يعد مرجعا في الأدب الحجازي.
عبد الله عبد الجبار الذي عاش مع الكتاب والكتابة دون زوجة أو ولد، بل دون مال إلا شيئا يسيرا لا يكاد يكفيه، فيضطر إلى الاقتراض لشراء دولاب للكتب مثلا، كما ذكر صديقه محمد حافظ. هذا الرجل نفسه رفض صرف شيك بقيمة خمسة ملايين ريال أي أكثر من مليون وثلاثمائة ألف دولار، أرسله الملك فهد كمساعدة لتحسين وضعه المادي، غير أنه كما يقول الأستاذ الشريف آثر أن لا يرده، ولا يصرفه، وبقي الشيك حبيس كتاب من كتبه حتى وفاته، " فما كان يرى أن يقبل مالًا لا يظنه يستحقه, وإن كان عن أذى ناله, فكرامته لا تقدر بثمن, بل هي فوق الأثمان".
كان المبلغ مغريا بالتأكيد، ويسيل له لعاب الكثيرين في هذا الوقت، فكيف بالأمر وقت استحقاقه، أي قبل أكثر من 18 عاما؟! لكنه عبد الله عبد الجبار بنفسه الأبية.
إننا بحاجة بالفعل لاستحضار أمثال هذه الشخصية وتقديمها للجيل الجديد حتى يدرك أبناؤه أن القيم قابلة للتطبيق حتى في أصعب الأزمنة التي يصعد فيها نجم المتزلفين والمرتشين.