اكتشف سجونك
غالبا ما يعيش الإنسان داخل صندوق أو عدة صناديق يخترعها لنفسه أو يخترعها له غيره فيرتضيها هو متواطئا ضد حريته واستقلالية تفكيره دون أن يشعر بالذنب أو تأنيب الضمير، لأن عملية القبول والدخول في الصندوق تتم غالبا خارج الوعي.
هذه الصناديق هي في الواقع سجون ندخلها ونبقى فيها مأسورين مقيدي التفكير محجوبين عن إدراك حقيقة السجن الذي استسلمنا لسجانه فأسلمناه وعينا وإرادتنا ولم نعد نفكر في الخروج وفك القيود.
كثيرة هي السجون التي نعيش فيها وتفرض علينا نمط تفكيرنا وتحدد فهمنا ونظرتنا للكون من حولنا بما فيه من أشياء وأشخاص وأفكار، ونحن نحاول هنا أن نتطرق لبعضها تاركين الباقي لوعي المتلقي حيث يمكن لكل شخص أن يدرك أكثر من غيره أسماء وعناوين ومواصفات السجون التي يقبع فيها.
1- سجن الانتماءات: الانتماء بحد ذاته ليس مشكلة، بل نستطيع الادعاء بعدم وجود كائن خارج دائرة الانتماءات. المشكلة في تحول الانتماء إلى سجن حقيقي موصد الأبواب والنوافذ؛ فالانتماء إلى اللون الأبيض مثلا تضخم عند أصحابه في جنوب أفريقيا وتحول إلى تمييز وفصل عنصريين ضد السود أصحاب الأرض الأصليين، والانتماء للصهيونية جعل أصحابها شعب الله المختار الذي لا يُسأل عما يفعل من قتل وتدمير ونهب واغتيالات، والانتماء لدين أو مذهب أو طائفة أو عرق أو قبيلة أو حزب أو وطن أو قومية أو غيرها قد يصبح هو الآخر سجنا مستساغا حين يشل تفكير الإنسان ويمنعه من النظرة الموضوعية للآخر المختلف.
يحدثنا القرآن عن تضخم الانتماء الديني وتحوله إلى سجن يحسب المنتمي إليه أنه يمتلك امتيازات خاصة عن بقية البشر لمجرد الانتساب الاسمي: ﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاء اللّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم بَلْ أَنتُم بَشَرٌ مِّمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاء وَلِلّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ﴾ المائدة 18
وقد تسبب هذا السجن في نفي الآخر نهائيا: ﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَىَ شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ﴾ البقرة 113
وهكذا يحسب بعض السنة أن الشيعة ليسوا على شيء، ويحسب بعض الشيعة أن السنة ليسو ا على شيء، بل أكثر من ذلك حيث يصل الأمر إلى داخل الدائرة الضيقة فيحسب الشافعي أن الحنفي ليس على شيء والعكس أيضا، ويحسب الأصولي أن الأخباري ليس على شيء والعكس أيضا، ولا يقف الأمر عند هذا الحد إذ قد يصل التقوقع إلى داخل الداخل.
2- سجن البيئة الاجتماعية: فالإنسان ابن بيئته يتأثر بعاداتها وتقاليدها وأعرافها وأخلاقها، وفي ضوء هذا نفسر إجماع أهل تلك القرية التي ذكرها القرآن على البخل واللؤم: ﴿فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَن يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا﴾ الكهف 77
3- سجن المصالح: ومن هنا نفهم المعارضة التي أبداها ( المترفون ) بحسب المصطلح القرآني لكل الدعوات الإلهية لأنها تنشد تغيير الواقع وتحقيق العدالة التي تقوض المعادلات الاجتماعية الظالمة، وتتعارض بالتالي مع مصالح المترفين الذين يهمهم بقاء الوضع على ما هو عليه لما يدر عليهم من مكاسب وامتيازات: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ﴾ سبأ 34
4- سجن المفاهيم والتصورات الخاطئة: فالناس كما يتحدث القرآن كانت تصوراتهم الخاطئة لطبيعة الرسول الذي يبعثه الله مانعا لهم من الإيمان به واتباعه، فقد كانوا يتصورون أن النبي المرسل يجب أن يكون ملكا لا بشرا من جنسهم، واستسلموا لهذا التصور المخترع الذي ابتدعته عقولهم القاصرة: ﴿وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَن يُؤْمِنُواْ إِذْ جَاءهُمُ الْهُدَى إِلاَّ أَن قَالُواْ أَبَعَثَ اللّهُ بَشَرًا رَّسُولاً ﴾ الإسراء 94
5- سجن الذات بما تنطوي عليه من أمراض الحسد والغيرة والأنانية وحب الشهوات: والحديث في هذا طويل، تطرق له القرآن في آيات عدة منها:
﴿ أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَآ آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُم مُّلْكًا عَظِيمًا﴾ النساء 54
﴿بِئْسَمَا اشْتَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْ أَن يَكْفُرُواْ بِمَا أنَزَلَ اللّهُ بَغْياً أَن يُنَزِّلُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ عَلَى مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ فَبَآؤُواْ بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُّهِينٌ﴾البقرة 90
﴿ وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوَاْ أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِّنَ الْمَالِ﴾ البقرة 247
6- السجن العاطفي المتمثل في الحب والبغض، حيث يميل الإنسان كل الميل مع من يحب، وكل الميل ضد من يكره، وهو لا يدرك أن الخير قد يكون فيما يكره، وأن الشر قد يكون فيما يحب. ﴿ وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ ﴾ البقرة 216
ومن هنا حذر القرآن من تأثير ما أطلق عليه ( الشنآن ) تأثيرا سلبيا عند تعاملنا مع من نكن لهم عداوة ما تمنعنا من العدل: ﴿ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى ﴾ المائدة 8
هذه بعض السجون التي ربما نكون داخلها، فليفتش كل منا عن صناديقه أو سجونه وليحاول إطلاق سراح نفسه دون انتظار إذن من أحد.