كي يقل الضجيج و يكثر الحجيج

 

 

 

لعل من أشد ما ابتلي به المسلمون إفراغ العبادات من مضامينها الحقيقية والتركيز على مظاهرها الخارجية دون جواهرها الداخلية . وهذا يعود إلى الفهم القشري للإسلام الذي يتعامل مع الدين كأجزاء مفككة لا رابط ولا وحدة عضوية بينها، وإلى ثقافة التسطيح التي تكشف عن خلل بنيوي في تفكير الأمة، وأنها لم تبلغ الرشد بعد، رغم تطاول السنين.

وهي ثقافة يراد لها أن تبقى سائدة، لا يتم التخلص منها ومن تبعاتها.

فالصلاة التي تنهى عن الفحشاء والمنكر، يتم تغييبها لصالح صلاة جوفاء لا تمنع صاحبها من ارتكاب أسوأ المنكرات وأبشع الفواحش في حق نفسه وغيره دون أن يرف له جفن.

والصوم الذي يهدف إلى خلق شخصية تقية نقية تتورع عن محارم الله، يُكَف الصوم عنه لصالح صوم شكلي ليس لصاحبه منه إلا الجوع والعطش. حيث لا أثر له في باطن الإنسان، فلا يجعله يصوم عن الرشوة والسرقة والخيانة والكذب وأكل أموال الناس بالباطل وهتك حرماتهم. وهكذا الأمر في سائر الشؤون العبادية.

إن ما نشهده في الحج – ونحن على أبوابه - مثال حي على ما نقول ، حيث نرى غياب الأهداف التي رسمها الشارع لهذه الفريضة العظيمة من ممارسات الكثير من الحجيج. فالحج الذي هو المظهر الأجلى لوحدة المسلمين لا يستطيع أن يحدث في الخارج أي وحدة ولو شكلية بين دولتين متجاورتين من دولهم، لأنه لم يعد يؤدى بروحه وجوهره.

في الطواف الذي يفترض أن يتشبهوا فيه بملائكة الله الذين يطوفون بعرشه ترى التزاحم وإبراز العضلات والرغبة في إنجاز السبعة أشواط في أسرع وقت دون أدنى تفاعل مع جوهر هذه العبادة التي كان ينبغي أن تحلق بالحاج في أجواء الملكوت الأعلى .

يقول الإمام علي : ‏ فَرَضَ عَلَيْكُمْ حَجَّ بَيْتِهِ الَّذِي جَعَلَهُ قِبْلَةً لِلْأَنَامِ يَرِدُونَهُ وُرُودَ الْأَنْعَامِ وَ يَأْلَهُونَ‏ إِلَيْهِ وُلُوهَ الْحَمَامِ جَعَلَهُ سُبْحَانَهُ عَلَامَةً لِتَوَاضُعِهِمْ لِعَظَمَتِهِ وَ إِذْعَانِهِمْ لِعِزَّتِهِ وَ اخْتَارَ مِنْ خَلْقِهِ سُمَّاعاً أَجَابُوا إِلَيْهِ دَعْوَتَهُ وَ صَدَّقُوا كَلِمَتَهُ وَ وَقَفُوا مَوَاقِفَ أَنْبِيَائِهِ وَ تَشَبَّهُوا بِمَلَائِكَتِهِ الْمُطِيفِينَ بِعَرْشِهِ يُحْرِزُونَ الْأَرْبَاحَ فِي مَتْجَرِ عِبَادَتِهِ وَ يَتَبَادَرُونَ عِنْدَهُ مَوْعِدَ مَغْفِرَتِهِ جَعَلَهُ سُبْحَانَهُ لِلْإِسْلَامِ عَلَماً وَ لِلْعَائِذِينَ حَرَماً فَرَضَ حَجَّهُ وَ أَوْجَبَ حَقَّهُ وَ كَتَبَ عَلَيْكُمْ وِفَادَتَهُ فَقَالَ سُبْحَانَهُ‏ وَ لِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَ مَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ‏.

وتتكرر الصورة في المناسك الأخرى من السعي والوقوف بعرفة والمبيت بمزدلفة والرمي والذبح وغيرها .

ففي الرمي والذبح مثلا لا يتم استحضار المواقف الإبراهيمية العظيمة التي جسدت التوحيد الخالص والتسليم المطلق لله تعالى ، ولا يتم في السعي  استدعاء صورة المرأة المؤمنة ( هاجر ) التي أسكنها إبراهيم ( ع) وابنَها إسماعيل ( بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة ) ، والتي ظلت متمسكة بالله واثقة بوعده ،لم تيأس من رَوح الله تعالى رغم قسوة الظروف التي كان ظاهرها  يشعر بجفاف منابع الأمل .

لقد تسبب تغييب جوهر العبادات أثناء ممارساتنا لها إلى تحويلها إلى طقوس لا تغير من واقع المسلم شيئا ، بينما كان الهدف الأساس من الدعوة المحمدية الشريفة هو بعث الحياة الحقيقية في نفوس أتباعها ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ فأين هي الحياة والمسلمون في ذيل قائمة العالم ، يستبد بهم التخلف الاقتصادي والاجتماعي والثقافي والسياسي ؟ أين هي الحياة والمسلمون – إذا استخدمنا التوصيف الخبير – " مذقة الشارب، ونهزة الطامع، وقبسة العجلان، وموطئ الأقدام " ؟ .

إن أفضل سبيل لنشر الإسلام في العالم يتم عن طريق تغيير هذا الواقع المأساوي ، ولن يتم ذلك في الخارج ما لم تتغير الذهنية والنفسية التي ينطلق منها التغيير ، وما لم نُعد اكتشاف الدين من خلال النفاذ إلى أعماق مقاصده السامية ، واستسقاء منابعه الصافية ، والتعامل مع أحكامه نصا وروحا كوحدة لا تتجزأ .

وعندما يحدث ذلك سيكون لعباداتنا طعم آخر ، بل ستكون حياتنا كلها عبادة ، وسنكون من أرقى الأمم مصداقا لقوله تعالى : ﴿وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ.

شاعر وأديب