التاريخ الذي يكتبه الناس
التاريخ المدون تاريخان: تاريخ يكتبه المنتصرون والقابضون على زمام السلطة والمتربعون على كراسيها الوفيرة. وتاريخ يكتبه المهمشون والناس العاديون والقابضون على جمر المبادئ والقيم.
ويعاني تاريخنا العربي عموما من أنيميا حادة في النصف الثاني، أي تاريخ المهمشين، بخاصة في تلك البلدان التي تخلفت عن مواكبة أدب كتابة المذكرات الشخصية والسير الذاتية، حيث لا تكاد تجد مدونات تاريخية ترصد إيقاع الشارع وتفاعلاته، ونجاحاته وإخفاقاته، ومسراته وعذاباته، وانصهاراته وانشقاقاته. فأضواء المسرح في الغالب مسلطة بشكل مكثف على بقعة صغيرة فيه تظهر كأنها المسرح كله.
وربما عوضت بعض المجتمعات هذا النقص بجنس أدبي آخر، هو الرواية في بعض صورها. ومعلوم أن الرواية لا تسد الخلل كله، لأن هدفها يتجاوز السرد التاريخي البحت، ولكنها – رغم امتزاجها بالخيال – تظل مادة يمكن أن تُلتَقط منها إشارات ودلالات، بل عبارات ومسارات.
وفي ظل غياب هذين ( المذكرات والروايات ) يغيب نصف التاريخ، مما يشوش الرؤية على المتابعين والراصدين لحركة المجتمع، ويعيق عملية نقل التجارب والمشاركة المعرفية بين الأجيال.
من هنا تأتي أهمية التجارب الحديثة التي ظهرت في ساحتنا مؤخرا، ومثلت إضافات وإضاءات على بعض البقع الأخرى من المسرح، واستطاعت لحد ما أن تنقب جدران الصمت هنا وهناك. من تلك التجارب مثلا ثلاث جمعها من بين ما جمعها موضوع السجن وما خلف القضبان. وهو موضوع شائك وحساس، لأنه يلج في عالم مليء بالأسرار والغموض، وقد يمثل كشف أسراره خطرا على حياة من يفعل ذلك. فإذا كانت السياسة أحد التابوهات الثلاثة في عالمنا العربي، فكيف بما بعد السياسة وخرق التابو.
التجارب الثلاث هي كتاب ( السجين 32 – أحلام محمد سعيد طيب وهزائمه ) بقلم أحمد عدنان. وكتاب ( زمن للسجن أزمنة للحرية ) للشاعر علي الدميني، وكتاب ( الحركة الوطنية السعودية 1953-1973 ) للسيد علي السيد باقر العوامي.
التجارب الثلاث ترصد تاريخ ما أهمله التاريخ عن خارج السجن وداخله، وعن الإنسان في كفاحه من أجل حياة أفضل ينعم فيها بالحرية والمشاركة السياسية الفاعلة. كما تضج بالكثير من المرارات التي تحملها هؤلاء والأثمان الباهظة التي دفعوها. ويحتاج الحديث عن هذه الكتب والتجارب لحديث مستقل.
إن هذا النوع من الكتابة يجب أن يكون محفزا لآخرين كي يثروا الساحة بالمزيد من التجارب التي ينبغي أن تستخلص منها الدروس والعبر في جانبيها الإيجابي والسلبي. فالتاريخ الذي يتحدث عن الانتصارات والإنجازات فقط تاريخ منقوص، ولا بد من استكمال الصورة بالحديث عن الهزائم والإخفاقات، خصوصا في الزمن الحاضر الذي أصبحت الشفافية واحدة من سماته.