الوعي التاريخي ضرورة

 

 

 

الوعي التاريخي من أهم مقومات حركة تقدم الأمم. فالأمة التي تريد الانطلاق للأمام ينبغي عليها أن تكون على بصيرة بسنن التاريخ التي تحكم مساره صعودا وهبوطا، وتوقفا وتقهقرا وتقدما. وبدون هذا الوعي تظل تسير على غير هدى، فيعيد التاريخ عليها نفسه لأنها تكرر ذات التجارب التي ثبت فشلها عند أمة أو أمم قد خلت.

ربما نحن من أكثر الأمم افتتانا بالتاريخ وبالقصص التاريخية والأبطال التاريخيين، ولكننا قد نكون من أفقر الأمم في جانب الوعي التاريخي، لأننا نقرأ تاريخنا قراءة تبجيلية، تجعل من شخصياته ( سوبرمانات) أو كائنات استثنائية لا يجود الزمان بمثلهم أبدا. ومثل تلك القراءة تُشعرنا بالنقص والصغار أمام أولئك الأبطال وما حققوه من إنجازات، قد لا يكون لبعضها نصيب في الواقع، وإنما هي من صنع خيال الرواة أو خيالنا.

من يتأمل المنهج القرآني في قراءة التاريخ سيدرك البون الشاسع الذي يفصلنا عنه، فالقرآن الكريم يضع الشخصيات والأحداث في إطارها الصحيح، وبأحجامها الحقيقية، ومن دون زوائد أو نواقص. القرآن لا يجامل أو يحابي أحدا على حساب الحقيقة. كما إنه يذهب لما وراء الصورة الظاهرية ليحيط بعمق الأشياء. لنـقف عند مثالين قرآنيين:

الأول:

في قوله تعالى: ﴿وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ ما أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلاَّ يَجِدُوا ما يُنْفِقُونَ التوبة: 92
هنا حديث عن موقف تاريخي مشرف لمجموعة من صحابة رسول الله مع وصف دقيق لحالتهم الظاهرية الخارجية (تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ) وحالتهم الباطنية الداخلية ﴿حَزَناً أَلاَّ يَجِدُوا ما يُنْفِقُونَ. بالإضافة لبيان الموقف منهم بأنه لا سبيل عليهم، أي لا مؤاخذة عليهم، بل إنهم يعتبرون مشاركين في الجهاد رغم تخلفهم عنه، لما ورد عن النبي لما قفل من غزوة تبوك فأشرف على المدينة قال: «لقد تركتم بالمدينة رجالا ما سرتم في مسير، و لا أنفقتم من نفقة، و لا قطعتم واديا إلّا كانوا معكم فيه قالوا: «و كيف يكونون معنا و هم بالمدينة؟ قال: حبسهم العذر».

الثاني:

في قوله تعالى: ﴿لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ التوبة: 25

هنا أيضا حديث عن مجموعة من صحابة رسول الله ووصف لحالتهم النفسية وسلوكهم الخارجي. وإذا كان الموقف الأول مشرفا، فإن الثاني لم يكن كذلك. إلا أن القرآن لم يقم بإخفائه والتستر عليه تحت أي حجة أو ذريعة. بل قام ببيانه خير بيان ليوضح لنا أننا أمام نفس بشرية تصيب وتخطئ، وتسمو وتنحدر، وأن التاريخ ينبغي أن لا يُغفل أحد الموقفين، وإلا ساهم في تضليل وتزييف الوعي التاريخي.

أظن أننا بحاجة ماسة اليوم إلى دراسات أعمق في المنهج التاريخي للقرآن الكريم حتى نعيد في ضوئه قراءة التاريخ، بل ومحاكمة كتب التاريخ والسير والمغازي لمعرفة مدى موافقتها وملاءمتها لذلك المنهج. وهذا نوع من العرض على القرآن الكريم لنأخذ ما يوافقه، ونترك ما يخالفه، ولتأسيس وعي تاريخي صحيح.

شاعر وأديب