وعينا الذي لم نصنعه
دائما ما نتأكد من سلامة البرامج التي نثبتها على أجهزتنا الحاسوبية والإلكترونية، كما نضع أفضل برامج الحماية خوفا من الفيروسات التي قد تعبث بها أو تدمر محتوياتها.
هذا عن الأجهزة، لكن ماذا عن عقولنا؟
ماذا عن اختراقات الفيروسات الفكرية والنفسية التي هي (أخفى من دبيب النمل على صفاة سوداء في ليلة ظلماء)؟
نستقبلها طواعية ونحن في أقصى لحظات الاسترخاء، فلا تجد أمامها ممانعة أو مقاومة، بل تجد عينا مفتوحة وأذنا صاغية وعقلا يغط في سبات عميق.
كثيرا ما نتوهم مخدوعين أننا نحن الذين نصنع برمجياتنا وثقافتنا ووعينا، ناسين مصانع إنتاج وإعادة إنتاج الوعي من حولنا.
فالعالم لم يعد بريئا في زمن تسليع الثقافة، أي تحويلها إلى سلعة تسعى إلى الاستحواذ على أكبر عدد من المستهلكين، مستخدمة كل وسائل الدعاية والإعلان والتسويق.
لقد استطاعت هذه المصانع أن تعيد تشكيل وعينا كما تريد، وبلغت براعتها حدا يشعر معه المستهلك أنه المنتج؛ يشعر بالحرية وهو في أسر القيود، وبالسعادة وهو في غمرات الشقاء.
والمثال الأوضح على ذلك هو ضيف الضيوف الذي اقتحم منازلنا دون عنوة، وصار أقرب المقربين إلى قلوبنا دون أن يخطب ودنا صراحة، وفتحنا له أبواب حواسنا وأحاسيسنا وقلنا له: ﴿هَيت لك﴾، فما قال ﴿معاذ الله﴾.
إنه الشاشة الفضية التي تعيد صياغتنا وتشكيلنا كما يريد منتجو موادها الإعلامية من أخبار وتعليقات وتحليلات وأفلام ومسلسلات وبرامج وإعلانات وغيرها.
تشغلنا القضايا التي يسلطون عليها الضوء، وبالشكل الذي يرغبون فيه، ونهمل القضايا التي يهملون، حتى وإن كانت أهم قضايانا المصيرية، كالتنمية السياسية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية، وغياب الحرية والديمقراطية والمساواة وحقوق الإنسان والشفافية.
ونتفاعل بمتعة مع الأفلام والمسلسلات وما تطرح من إفساد للذوق والضمير، ونتابع أدق تفاصيلها، ونحفظ أسماء شخصياتها، وتاريخهم، ويومياتهم بأكلها وشربها ولباسها وكل شاردة وواردة فيها.
يقول الدكتور علي ناصر كنانة في كتابه (إنتاج وإعادة إنتاج الوعي): إن الحضور الفيزيائي والثقافي للتلفزيون في المنازل السكنية بلغ من القوة والتأثير ما يدعو إلى اعتباره المنزل البديل، بما يعنيه المنزل من علائقيات راح التلفزيون يستحوذ عليها ويحل بديلا عنها، لنشهد في النهاية ظهور، ما أسميه، "الوعي التلفزيوني" الذي يزيح الوعي الإنساني الطبيعي ويستولي على موقعه.
لقد هاجم المثقفون بحنق دور التلفزيون الذي يصفه المعماري فرانك للويد رايت Frank Lloyd Wright بأنه مصنع علكة للعيون chewing gum for eyes ، بينما يصطلح الكاتب هنتر أس.
ثامبسون Hunter S. Thampson على عمل التلفزيون بوصفه "خندقَ مالٍ ضحلا ووحشيا، إذ ينطلق اللصوص والقوادون بحرية، في حين يموت الرجال الأخيار مثل الكلاب".
عندما ترى الناس في مجتمعاتنا مندكين في السجالات الطائفية، ومنهمكين حد الإنهاك في الاصطفافات والتحزبات الضيقة، وبعيدين كل البعد عن التأسيس لوطن المواطنة والحقوق والمؤسسات، ففتش عن صناعة الوعي التي نجحت في ترويضهم، وفتحت شهيتهم لتناول كبسولاتها الثقافية المخدرة.
إن التلفزيون ليس إلا المثال الأوضح لذلك، إذ إن صناعة الوعي هو عالم واسع تُوظف فيه الطاقات المالية والبشرية والعلمية والتكنولوجية المتقدمة، لتجعل منا كائنات مطواعة تستقبل وتقبل دون فلترة أو نقد.