الاستجابة الهابيلية
بين قول الشاعر الجاهلي عمرو بن كلثوم في معلقته النونية:
ألا لا يجهلَن أحد علينا ... فنجهلَ فوق جهل الجاهلينا
وبين قول الله تعالى في كتابه الكريم على لسان هابيل لأخيه قابيل: (لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي ما أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ) المائدة:28 ، بينهما بعد المشرقين، أو بعد الجاهلية عن الإسلام. وللأسف فإننا في واقعنا العملي في مجتمعاتنا العربية نتغنى ونحتفي بقول الشاعر أكثر من تلاوتنا واحتفائنا بهذه الآية الكريمة، خصوصا في علاقاتنا البينية الداخلية، كأننا المصداق الخارجي الأبرز لقوله تعالى:﴿بَأْسُهُم بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ﴾.
فالحكومات تستأسد على شعوبها الضعيفة المقهورة، والشعوب فيما بينها يستضعف بعض مكوناتها البعض الآخر.
بين الفعل ورد الفعل هناك دائما مسافة فاصلة، تضيق حتى تكاد تتلاشى، وتتسع حتى تكون أوسع من بحرنا الذي أكله الردم ونحن عنه غافلون. وأحد الفروقات المميزة بين الأفراد الناجحين وبين الآخرين الفاشلين، وبين المجتمعات المتقدمة وبين أختها النائمة، أو المسماة مجاملة نامية، يكمن في هذه المسافة.
الأفراد والمجتمعات الناجحة تمتلك زمام أمرها، وتتحكم في ردود أفعالها تجاه ما تتعرض له من استفزازات ومؤثرات خارجية. إذ لديها منظومة متكاملة من القيم التي تشربتها حتى أصبحت جزءا من نسيجها، مدعومة برسالة ورؤية وتخطيط استراتيجي بعيد ومتوسط وقصير المدى. وبالتالي فهي لا تنساق وراء انفعالاتها الآنية، وتقلباتها العاطفية. بل تنطلق دائما من قيمها ومبادئها ورسالتها ورؤيتها.
أما الفاشلون أفرادا ومجتمعات، فهم يعيشون حياتهم لحظة بلحظة، وانفعالا بانفعال، حيث يغيب التخطيط وتنعدم الرؤية وتتراجع القيم.
حين نتأمل آيات القرآن الكريم سنجد تركيزا كبيرا على منهج الناجحين من ذوي القيم والمبادئ، الذين يستجيبون للمثيرات استجابة إرادية لا انفعالية، أو فلنُسَمها استجابة (هابيلية) لا (قابيلية). وهذه بعض الآيات في هذا الإطار:
﴿وَعِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً﴾.
﴿وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ﴾.
﴿وَقالُوا رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ . اصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ﴾.
مما لا شك فيه أن الاستجابة الهابيلية مكلفة جدا وثقيلة على النفس، لأنها ضد التيار العاطفي النفسي الجارف، حيث هي محكومة بالعقل والقيم والحكمة التي من يؤتاها فقد أوتي خيرا كثيرا، ولكنها على كل حال ألذ عاقبة وأصوب نتيجة.
نتعرض بين فينة وأخرى لقصف كلامي عنيف يستفز ذوي الأعصاب الإنجليزية الباردة، ويجعل الحليم حيران، خصوصا وأنه يأتيك من أخ لك في الدين، وشريك لك في الوطن، وربما جارك أيضا. فلم يحفظ أي حق من تلك الحقوق، بل ولا حقك كإنسان له حرمته. ونحن إزاء ذلك إما أن ننجر لمسايرة القصف بقصف مثله أو أعظم منه، تأسيا بعمرو بن كلثوم، أو يكون ردنا مدروسا منطلقا من قيمنا ومبادئنا ورؤيتنا للعيش المشترك.
إن هذه الأصوات النشاز يجب أن لا تشغلنا أبدا عن التزامنا بالدعوة لوطن المواطنة الذي يتساوى أفراده في الحقوق والواجبات؛ وطن يتسع للجميع على قدم المساواة؛ وطن يأخذ على أيدي هؤلاء بالقانون الذي يحرم ويُجرم الممارسات التمييزية والتحريضية البغيضة.
إن التأخر في سن قانون يتعاطى مع هذه الحالات، وغياب المساءلة والمحاسبة، يشجع على تمادي الجاهلين في غيهم، لأن من أمن العقوبة أساء الأدب. وهنا تأتي مسؤولية الدولة التي ينبغي أن تحرص على السلم الداخلي، وتحفظ كرامة كافة مواطنيها، وتمنع تعدي أحد مكوناتها على الآخر.