فوبيا الديمقراطية وأخواتها

 

 

 

لو طرحت سؤالا على شريحة عشوائية من شباب مجتمعنا العربي عن تشارلز داروين، عالم الأحياء والتاريخ الطبيعي، الإنجليزي المولود 1809 والمتوفى 1882 م، فستفاجأ أن أكثرهم لا يعرفونه، وإذا قلت لهم بأنه إنجليزي، فربما يقولون لك: إنه بالتأكيد لا يلعب في أحد الأندية المشهورة، مثل مانشستر يونايتد أو ليفربول أو تشلسي.

أما إجابة من يظنون أنهم يعرفونه، فستكون: إنه القائل بأن أصل الإنسان قرد. وإذا سألت عن مصدر هذه المعلومة، فسيكون الجواب: سمعتُ من ....؛ ولن تجد من يقول: قرأت في كتابه ذلك، لأن الرجل ببساطة لم يقل ذلك في كتابه ذي الشهرة الواسعة: أصل الأنواع الذي صدر عام 1859م، الذي تحدث فيه عن نشأة الأنواع الحية عن طريق ما أسماه بمبدأ الانتخاب الطبيعي، وصاغ فيه نظريته في التطور، أي التغير في السمات الوراثية الخاصة بأفراد التجمع الأحيائي عبر الأجيال المتلاحقة.

مقالي ليس عن داروين ومدى صحة أو سقم نظريته، فهذا موكول لأهل الاختصاص. لكن هذه المقدمة تلقي ضوءا على جانب من أوجه الخلل في بنيتنا الثقافية، التي لا تزال تعتمد على الشفاهية بمعناها الأوسع، الذي يشمل حتى المكتوب حين يكون من غير اعتماد على مصدر صحيح. نحن نتعرف على الآخر وثقافته ومنتجاته الفكرية في الغالب من خلال مقولات جاهزة توارثناها جيلا عن آخر، كما توارثت الأجيال شرب (الفيمتو) في شهر رمضان، حتى أصبح البعض يدافع عنه وكأنه المنتج له، العالم بمكوناته وأسرارها.

وهذا ما يجعل من السهولة بمكان تخويفنا من الآخر ومنجزاته الثقافية، لأننا لا نقرأها مباشرة كمنجز بشري قابل للصحة والخطأ، بل يتم تقديمها لنا من خلال أفهام الآخرين الذين قد لا يكونون قد اطلعوا عليها اطلاع الخبير المنفتح الذي ينشد الحكمة ويعتبرها ضالته أنى وجدها، بغض النظر عن مصدرها؛ أو ربما يقصدون إبعادنا عنها لأغراض وحاجات في نفوسهم.

الديمقراطية هي مثال جيد على هذا.إذ كثيرا ما يحذر البعض من الديمقراطية، ويعتبرها كفرا وبدعة، وأنها ليست من الدين في شيء، وذلك في خطاب تعميمي لا يناقش فلسفة الديمقراطية، ومفرداتها واحدة واحدة، وأين تتناقض مع الإسلام. طبعا مع الإسلام كما يفهمه.

في سؤال لأحد المشايخ عن الديمقراطية، أجاب: " هذه الديمقراطية ليست من الإسلام، وإنما هي من الأشياء المحدثة، من العقائد التي يستعملها الكفرة، والديمقراطية تعني: قول الأكثرية، العبرة بالأكثر، الإسلام لا يعمل بهذا، الإسلام عنده الشورى، وعنده أيضًا أهل الحل والعقد، العبرة بأهل الحل والعقد، الديمقراطية عندهم الأصوات، الأصوات يعني بالأكثرية، الانتخابات تكون بالأكثرية هذه الديمقراطية ليست من الإسلام في شيء، وإنما هي مبدأ مبتدع، مبدأ كفري لا يقره الإسلام. وإنما الاختيار والانتخاب في الإسلام يكون لأهل الحل والعقد، إذا اختار أهل الحل والعقد من كل قبيلة كفى، ولو لم يبايع الأكثر، أما هؤلاء يزعمون أنه الصبيان والنساء والأطفال وناقصو العقول كلهم تؤخذ أصواتهم، هذا مبدأ خارج ليس من الإسلام في شيء، في الإسلام الاختيار والانتخاب يكون للعقلاء، أهل الحل والعقد من القبائل ورؤساء القبائل والمعروفين بالعقل والرزانة، فإذا بايعوا فالباقي تبع لهم، إذا بايع من القبيلة واحد أو اثنان أو ثلاثة يكفي، أما هؤلاء -الديمقراطية- لا بد من الأصوات، يكثرون الأصوات، وهذه الأصوات ولو كانت من مجانين ولو كانت من أطفال ولو كانت من نساء ولو كانت ممن لا رأي له، المقصود: أن الديمقراطية هذه مبدأ عند الكفرة وليس من الإسلام في شيء".

عندما تطالع هذا النص يتبين لك التخويف الشديد من الديمقراطية كما فهمها الشيخ، ويظهر لك حديثه عن البديل الإسلامي من وجهة نظره، وهو بديل – كما ترى – لا ينظر للإسلام العالمي المطلوب انتشاره في كافة أنحاء المعمورة، والذي يستجيب لمتطلبات البشرية في القرن الحادي والعشرين وما بعده، وإنما ينظر إليه من خلال مجتمع محلي قبلي.

المشكلة ليست في جواب الشيخ، ولكنها في الجاهزية والاستعداد الاجتماعي في تلقي جوابه بالقبول دون مناقشة، أو محاولة لمعرفة الديمقراطية ذاتها من مصادرها. إنه باختصار غياب العقل النقدي، وسيادة الثقافة التلقينية.

وللحديث بقية.

شاعر وأديب