المصالحة بين الديمقراطية والتنمية
قد يسأل سائل: ومتى حدثت العداوة والبغضاء بين الديمقراطية والتنمية، حتى تحتاجا لمصالحة؟ ألا يكفي الوجدان دليلا على وجود علاقة متميزة بينهما، فهما كما يقول إخواننا المصريون (سمن على عسل)، رغم أني لا أرى في اجتماع السمن والعسل علاقة صحية، ولكني سأقبل بهذه المقولة من أجل عيون الديمقراطية والتنمية. وهي عيون بالمناسبة (في طرفها حور)، ولذا سُجن من أجلها الكثير في عالمنا العربي، ونُفي الكثير، وقُتل الكثير (ثم لم يحيين قتلانا).
الجواب على هذين السؤالين تجده في مقال: ديمقراطيات الخراب! للكاتب الصحفي تركي الدخيل، حين يقول بالحرف الواحد: "حين نأتي إلى التنمية ومستوياتها في العالم العربي سنجد أن الدول التي اتخذت التنمية مساراً مثل دول الخليج هي أغنى الدول وأكثرها استقراراً، على حين أن الدول الديمقراطية، أو التي تزعم أنها كذلك هي أقل الدول نمواً وأكثرها تفككاً وتشوهاً."
بهذه العبارة وأخواتها يريد أن يقنعنا الدخيل بأننا أمام طريقين لا ثالث لهما؛ فإما التنمية وإما الديمقراطية. أما الجمع بينهما فهو كالجمع بين الأختين. وهو يقارن – في مغالطة منطقية – بين مؤشر واحد من مؤشرات التنمية، وهو مستوى دخل الفرد، وبين ديمقراطية مزيفة تفتقد إلى أبسط شروط الديمقراطية، كشرط الشمول الذي يكفل حق التصويت لجميع المواطنين على قدم المساواة، وشرط التنافسية، وشرط الاستدامة وغيرها. فما هو موجود في العالم العربي ديمقراطيات انتقائية مفصلة وفق مقاسات معينة، وذات نتائج مضمونة معروفة سلفا.
ثم إن هذه المقارنة حتى لو قبلنا بها، فإنها ليست دقيقة البتة، للأسباب التالية:
الأول: مستوى دخل الفرد في الدول النفطية مرتفع بسبب الفوائض المالية الضخمة من عائدات النفط، وليس بسبب وجود اقتصاد معرفي متطور. فالاقتصاد في الدول العربية كلها ريعي، ولا فضل لدولة على أخرى إلا بالنفط الذي يعتبر مادة ناضبة ينبغي أن تستثمر عائداتها لتأسيس اقتصاد أكثر متانة.
الثاني: تقوم نظرية الحرمان النسبي Relative deprivation على أن رضا الفرد عن أوضاعه أو عدمه لا يتوقف على حجم الفجوة بينه وبين الآخرين, بل إنه يرجع إلى الفارق بين حجم ما يحصل عليه الفرد موضوعيا والمستوى الذي يرى أنه يستحقه أو يتوقعه.
الثالث: إن التنمية لا يمكن أن تقاس بمستوى دخل الفرد فقط، حيث يذهب علماء التنمية إلى وجود مؤشرات عدة كالمؤشرات الاقتصادية والاجتماعية ومؤشرات الحاجات الأساسية ومؤشرات الرفاه ونوعية الحياة.
الرابع: مفهوم التنمية لا ينحصر في مجال واحد، بل تطور هذا المفهوم ليشمل التنمية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية والبشرية. فلماذا يتعمد الدخيل حصرها في مستوى دخل الفرد. وأين هي التنمية الحقيقية مع تزايد نسبة البطالة، ومع الأزمات الأخرى كأزمة السكن وغلاء المعيشة، وتدني مستوى الخدمات الصحية والتعليمية وغيرها؟
الخامس: الديمقراطية بمكوناتها القائمة على المشاركة الشعبية والحرية والمواطنة والمساواة والفصل بين السلطات والانتخابات وغيرها مما تعرضنا له سابقا لا تتناقض أبدا مع التنمية، بل هي توأمها.
إذن لا حاجة للمصالحة بين التنمية بمفهومها الواسع وبين الديمقراطية الحقيقية، فهما (سمن على عسل).