المحبون في جوع مقيم
يقول الشاعر الصوفي ابن الفارض (576-632 هـ) طالبا من محبوبه أن لا يبقي منه شيئا إلا أخذه عنده، ليصبح خالصا مخلَصا للمحبوب:
ألا في سَبيلِ الحُبِّ حالي وما عَسى .... بكُمْ أن أُلاقي لو دَرَيتُمْ أَحِبَّتِي
أَخَذْتُمْ فؤادي وهوَ بَعْضِي فما الَّذي .... يَضُرُّكُمُ أن تُتْبِعُوهُ بجُمْلَتِي
المحبون في نهَم دائم من فرط تعلقهم بالمحبوب، كلما اقتربوا منه اشتاقوا لوصل أقرب، وكلما أمضوا معه وقتا تطلعوا إلى زمن أطول، وكلما تعمق حبهم أخذتهم الرغبة بالمزيد. يقول الإمام علي بن الحسين السجاد في مناجاة المريدين: فَقَدِ انْقطَعَتْ إلَيْكَ هِمَّتِي، وَانْصَرَفَتْ نَحْوَكَ رَغْبَتِي، فَأَنْتَ لاَ غَيْرُكَ مُرادِي، وَلَكَ لا لِسِواكَ سَهَرِي وَسُهادِي، وَلِقاؤُكَ قُرَّةُ عَيْني، وَوَصْلُكَ مُنى نَفْسِي، وَإلَيْكَ شَوْقِي، وَفِي مَحَبَّتِكَ وَلَهِي، وَإلى هَواكَ صَبابَتِي، وَرِضاكَ بُغْيَتي، وَرُؤْيَتُكَ حاجَتِي، وَجِوارُكَ طَلَبِي، وَقُرْبُكَ غايَةُ سُؤْلِي، وَفِي مُنَاجَاتِكَ رَوْحِي وَراحَتِي، وَعِنْدَكَ دَواءُ عِلَّتِي، وَشِفاءُ غُلَّتِي، وَبَرْدُ لَوْعَتِي، وَكَشْفُ كُرْبَتِي.
إننا نحن الأفراد العاديين الذين مَبلغُنا من الحب – إن كان شيء – يسير جدا، لتعلقنا الشديد بالحياة العاجلة وزخرفها وزبرجها، وانصرافنا عن الآجلة ونعيمها وملذاتها، لا نستطيع إدراك المعاني الرفيعة العالية للحب الذي يجعل الإنسان في شغل دائم عما سوى المحبوب الأعظم، ذي الجمال المطلق، والجلال المنزه عن كل نقص. ولذا قد نمر على الآيات التي تصف عبادة المقربين الذين هم عند ربهم وفي حظوته، دون أن نتوقف عندها وقفة المتأملين.
يقول تعالى في سورة الأنبياء: ﴿وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ (19) يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ (20)﴾ .
قال صاحب تفسير الميزان: "يصف تعالى حال المقربين من عباده والمكرمين من ملائكته أنهم مستغرقون في عبوديته مكبون على عبادته لا يشغلهم عن ذلك شاغل ولا يصرفهم صارف".
كيف وصل هؤلاء لهذا المقام من الانقطاع إلى الله تعالى؟
بالطبع هذا المقام لا يختص بالملائكة، إذ هناك من هو أشرف منهم قطعا، كالنبي محمد الذي هو سيد الكائنات جميعا، والمخلَصين من عباده تعالى الذين امتلأت قلوبهم بمحبة الله تعالى حتى لم يعد فيها سواه، كما جاء في دعاء الإمام الحسين يوم عرفة: أَنْتَ الَّذِي أَشْرَقْتَ الْأَنْوَارَ فِي قُلُوبِ أَوْلِيَائِكَ حَتَّى عَرَفُوكَ وَوَحَّدُوكَ. وَأَنْتَ الَّذِي أَزَلْتَ الْأَغْيَارَ عَنْ قُلُوبِ أَحِبَّائِكَ حَتَّى لَمْ يُحِبُّوا سِوَاكَ وَلَمْ يَلْجَئُوا إِلَى غَيْرِكَ. أَنْتَ الْمُونِسُ لَهُمْ حَيْثُ أَوْحَشَتْهُمُ الْعَوَالِمُ، وَأَنْتَ الَّذِي هَدَيْتَهُمْ حَيْثُ اسْتَبَانَتْ لَهُمُ الْمَعَالِمُ. مَاذَا وَجَدَ مَنْ فَقَدَكَ وَمَا الَّذِي فَقَدَ مَنْ وَجَدَكَ.
إذن كلما اقترب الإنسان من ساحة الحب الإلهي، كلما كان أكثر استغراقا في ذكر الله وحمده وتسبيحه، حتى يصل إلى مقام (لا يَفْتُرُونَ). وحين ذلك يكون شعوره بالتقصير أقوى وأصدق، وكذلك استشعاره بالجوع لمزيد من طعام الحب أشد، نتيجة النهم المتنامي لديه، وخُلوه من الموانع المعيقة للإحساس المرهف.
وفي ضوء هذا نستطيع أن نفهم خطاب الإمام الصادق مناجيا ربه: سَيِّدِي أَنَا مِنْ حُبِّكَ جائِعٌ لا أشْبَعُ، أنَا مِنْ حُبِّكَ ظَمْآنٌ لا أَرْوى، وا شَوْقاهُ إلى مَنْ يَرانِي وَلا أَراهُ.
دمتم بحب .. جمعة مباركة .. أحبكم جميعا.