المصالحة بين الديمقراطية والدين (4)

 

 

 

مبدأ الحرية من المبادئ الأساسية في الديمقراطية الليبرالية. وقد اتخذه بعض الإسلاميين ذريعة لإعلان الطلاق البائن بين الديمقراطية والدين، ولم يكلف نفسه عناء بعث حكمين من أهل الديمقراطية وأهل الدين ليرى إمكانية التصالح والتوفيق بينهما. قال الدكتور عبد العزيز بن ريس الريس: "مبدأ الديمقراطية يصادم الدين الإسلامي في أمور منها: حرية الدين، وحرية التعبير بالرأي وهكذا ..." . فالدكتور الريس لا يرى في الإسلام حرية المعتقد أو حرية الرأي، وهذا مما يجعله رافضا للديمقراطية.

لا أدري كيف يفسر الدكتور الريس الآيات التي هي في صلب موضوع الحرية، ومنها:
﴿لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ.
﴿وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُر.

في المقابل تعرض الإسلام للكثير من النقد من قبل الآخرين بسبب ما يرونه من موقفه من الحرية الذي يقرؤونه في كتابات بعض الإسلاميين. وهذا ما جعل هذا المبدأ أو المفهوم حاضرا بقوة في كتابات ونقاشات وسجالات الإسلاميين في عصرنا الراهن، مثل كتاب (الحريات العامة في الدولة الإسلامية) للشيخ راشد الغنوشي، وكتاب (حق الحرية في العالم) للأستاذ الدكتور وهبة الزحيلي، حيث نقرأ فيهما دفاعا عن حق الحرية من خلال تصور إسلامي. غير إنه – أي مفهوم الحرية - لا يزال بحاجة للمزيد من التحرير والتأصيل، وتلك في الواقع مسؤولية فقهاء الأمة الذين يُنتظَر منهم المزيد من الأبحاث الفقهية الموسعة في باب الحرية من وجهة نظر الإسلام ومجالاتها وحدودها، ليس من باب الرد على الآخرين فقط، بل من باب بيان الموقف في هذه المسألة الشائكة التي أصبحت مالئة الدنيا وشاغلة الناس- وحق لها أن تكون كذلك- فلماذا لا تكون مالئة بعض الفقه وشاغلة بعضه؟

فإذا كان هدف الخلقة بحسب القرآن الكريم هو عبادة الله وحده التي تعني التحرر من عبادة كل ما سواه، كما قال تعالى ﴿وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ، وإذا كانت البعثة النبوية لتحرير الناس من إصرهم والأغلال التي كانت عليهم، فلماذا تغيب مفردة الحرية في الفقه، وهي الحاضرة بقوة في القرآن الكريم؟

إن حضور الفقيه في الساحة واشتغاله بمسائلها الحديثة سيثري دون أدنى شك الفقه الإسلامي نفسه، وسيسد الباب على الكثير من الطعون التي تُوجه للدين وعلاقته بالحرية وغيرها من المفاهيم المتداولة حاليا.

لقد كان لحضور الشيخ النائيني مثلا وتفاعله مع حركة المشروطة ضد الاستبداد أثره القوي في إنتاج رسالته المشهورة (تنبيه الأمة وتنزيه الملة)، والتي دافع فيها عن الحرية، ورد على المغالطات المثارة حول علاقة الدين بها. يقول متحدثا عن الحرية: "إن أصالة الحرية وارتباطها بالإنسانية، وكونها من ضرورات الدين، هو مما يعرفه كل عاقل بغض النظر عن دينه أو مذهبه، وهو مورد إجماع كافة الأمم والمجتمعات، على ما بينها من شدة الاختلاف في سائر الأمور، كما هو حال المسيحيين، بل حتى المجتمعات التي لا تدين بشريعة سماوية محددة. فمع اختلافهم الشديد في مجال الأفكار، إلا أنهم نهضوا جميعا لاستنقاذ حريتهم فصارعوا الغاصبين، وابتلي بعضهم بأشد مما ابتلينا به من المصائب، وبذلوا من نفوسهم أضعاف ما بذلنا، حتى أقاموا أساس الحرية الوطيد". ويرى " "أن تحقق معنى العبودية، لا ينحصر في القيام بأداء فروض العبادة المتعارفة في العرف الديني الخاص، مثل التوجه للمعبود وإقامة الصلاة له على سبيل المثال، بل تشمل أي خضوع تام من جانب واحد لآخر، خضوعا ينطوي على الاستسلام النفسي، المصحوب بالتنازل عن الحق الأصلي الذي وهبه الخالق للإنسان في الإرادة والاختيار الحر".

إن الحاجة لا تزال ماسة لمزيد من البحوث المعمقة حول الحرية في المنظور الديني، خصوصا ما يتعلق بحرية الاعتقاد وحرية التعبير، خصوصا في زمن الانبعاث الجديد التائق للحرية والرافض للاستبداد بكافة أشكاله.

شاعر وأديب