المصالحة بين الديمقراطية والدين (5)
في الديمقراطية يتساوى جميع المواطنين في الحقوق والواجبات، بغض النظر عن انتمائهم الديني أو المذهبي أو العرقي أو غيرها. فالمساواة والحرية هما جناحا المواطنة في المفهوم الحديث المرتكز على الديمقراطية.
وهذا ما جعل البعض يرى تعارضا بين الديمقراطية والدين، حيث يرى أن الدين لا يساوي بين البر والفاجر، والمؤمن والكافر، والعالم والجاهل. ويستدل على ذلك بجملة من الآيات الشريفة، منها:
﴿قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ﴾
﴿وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلَيْنِ أَحَدُهُما أَبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلى مَوْلاهُ أَيْنَما يُوَجِّهْهُ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾
﴿قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ﴾
﴿أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ﴾
إذن المساواة بحسب نظر هؤلاء لا تتسق مع الرؤية الإسلامية كما يفهمونها بالاتكاء على النصوص القرآنية. في المقابل رأى آخرون أن مفهوم المساواة مقرر في الشريعة الإسلامية مستدلين على ذلك بالنقل أو بالعقل.
وشكلت صحيفة أو وثيقة المدينة أساسا قويا ومتينا استند إليه القائلون بمشروعية المساواة بين مواطني الدولة الإسلامية، بصرف النظر عن انتماءاتهم المختلفة. وهي الصحيفة التي أعدها النبي بعد قدومه للمدينة، وكانت تهدف لتنظيم العلاقات داخل المجتمع الجديد. تقول الصحيفة في أحد بنودها:
"وأن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين، لليهود دينهم، وللمسلمين دينهم، وللمسلمين دينهم: مواليهم وأنفسهم، إلا من ظلم وأثم، فإنه لا يُوتغ(يهلك) إلا نفسه وأهل بيته".
وقد رأى الدكتور علي جمعة في مقال له أن وثيقة المدينة جاءت " كأول دستور للدولة المدنية في العالم، يحدد ملامح دولة الإسلام الجديدة، ولا يفرق بين مواطنيها من حيث الدين أو العرق أو الجنس". أما الشيخ راشد الغنوشي فقد رأى أن البند المذكور يؤسس لأمة السياسة أو المواطنة بالتعبير الحديث أي شركاء في نظام سياسي واحد يخولهم حقوقا متساوية.
وهو ما استفاده أيضا الشيخ محمد مهدي شمس الدين من عبارة البند ذاته، حيث يقول: وهذه العبارة ذات دلالة عظيمة الأهمية، فإن الظاهر منها كونهم يشكلون (أمة) بالمعنى السياسي، وقوله: "لليهود دينهم، وللمسلمين دينهم" يظهر عنصر التنوع في المجتمع، فيكون المجتمع الجديد (أمة واحدة) بالمعنى السياسي، متنوعة الانتماء الديني، لأنها تتشكل من أمتين بالمعنى العقيدي.
أما الشيخ النائيني الذي ذهب إلى أصالة المساواة بين المواطنين، فإنه بين في رسالته (تنبيه الأمة وتنزيه الملة) المقصود بالمساواة رفعا للإشكالات والشبهات، وأفاد بأن موضوعها الحالات العامة المشتركة بين جميع الرعية، في مختلف قضاياهم، مثل الاطمئنان على النفس والمال والعرض والمسكن، ومنع التعرض بدون سبب، وعدم التجسس على الخفايا، وعدم الحبس والنفي من دون موجب، وعدم الممانعة من الاجتماعات المشروعة، ونحو ذلك مما هو مشترك بين عموم الناس، وليس متعلقا بطائفة خاصة.