المصالحة بين الديمقراطية والدين (6)
حاولنا في الخمس حلقات الماضية عقد مصالحة بين الديمقراطية والدين، وتطرقنا إلى مجموعة من الإشكالات التي حاول أصحابها من خلالها القول بعدم مشروعية أي لقاء بينهما. لكن المتتبع لمسيرة العلاقة الفكرية بينهما في تصورات الإسلاميين وبالذات المهتمين بالشأن السياسي ونهضة الأمة، سيلحظ تطورا ملحوظا تجاه المواءمة والمصالحة بينهما عن طريق التفكيك بين الديمقراطية في بعدها الفلسفي والأيديولوجي، وبينها في بعدها العملي كآلية للحكم والإدارة.
في كتابه (أسئلة الثورة) يطرح الدكتور سلمان العودة السؤال التالي: ما هو الموقف الإسلامي من الديموقراطية؟
ثم يجيب عليه قائلا: ثمَّ اتفاق على أن فكرة الديموقراطية ولدت في (أثينا) في القرن السادس قبل الميلاد، وكانت تعني ببساطة التخلِّي عن حكم الأرستقراطية السائد، وفتح الباب لأكبر عدد من المواطنين للمشاركة في القرار مباشرة أو عن طريق ممثليهم، وكان هذا الحق محظوراً على النساء والعبيد.
النظام الديموقراطي الغربي يستند إلى فكر مادي يجعل الإرادة الإنسانية هي المرجع الأول والأخير في تقرير ما هو حق وصواب، فالحقيقة هي قضية ذاتية إنسانية وكل فرد يقرر لذاته ما يراه صواباً، ثم يتم التوافق بين أفراد المجتمع بنظام يخضع له الجميع.
فهناك الفلسفة المادية إذاً التي يُعتبر الموقف الإسلامي في خلاف جوهري معها.
وهناك الممارسة السياسية والتجربة الإنسانية والإجراء الإداري الذي يمكن اقتباسه وفق التفاعل الحضاري الإيجابي والظروف البيئية للمجتمع فكل تجربة سياسية كي تنجح مادياً وواقعياً لابد أن تخضع لشروط واقعها المراد تطبيقها فيه، وللشروط الدينية والثقافية في ذلك البلد.. ولذلك يقول مفكر التنوير الفرنسي جان جاك روسو "في بداية كل أمة تريد تأسيس سياستها ..لابد أن تعتمد على الدين ".
هكذا فرق العودة بين الديمقراطية كفلسفة تختلف وتفترق عن فلسفة الدين، وبينها كممارسة على الأرض تتفق مع مقاصد الدين. فالإسلام الذي دعا للشورى ترك تحديد كيفيتها وإجرائياتها لأن هذه من المتغيرات التي تتطور وفق الزمن، بينما يبقى أصل الشورى ثابتا.
ويرد الشيخ راشد الغنوشي في مقدمة كتابه (الحريات العامة في الدولة الإسلامية) على ما يقال من التناقض بين الديمقراطية والدين وعلى حملات التشكيك في قدرات الإسلام على تنظيم الحياة وضمانه للحريات العامة والخاصة وحقوق الأقليات والنساء، يرد بقوله: على حين أن ما تحصل عندي من قناعات راسخة واضحة يتلخص في أن الديمقراطية ليست مفهوما بسيطا، كما يظن، وأنها ولئن قدمت مفاهيم للحرية وأجهزة لتجسيدها وترشيح الإجماع في مجتمع قومي محدود، ويمكن وصفها في الجملة بأنها "لا بأس بها"، فإنها لا تتجاوز كونها ممكنا من الممكنات، وأن الإسلام لا يتناقض معها ضرورة، بل إن بينهما تداخلا واشتراكا عظيمين يصلحان أساسا متينا لتبادل المنافع والتعايش، كما إن التباين والاستدراك عليهما واردان.
أما السيد محمد خاتمي الرئيس الإيراني السابق - والذي جاء لسدة الرئاسة وفق الآليات الديمقراطية في تداول السلطة والانتخابات - فقد كان لب مشروعه إيجاد التوازن بين الديني والمدني في إيران، وحاول إزالة ما يراه البعض من تعارض بين حق الله وحق الشعب، إذ يقول في كتابه (التنمية السياسية التنمية الاقتصادية والأمن): وليس ثمة تعارض بين حق السيادة الجماهيرية وحق السيادة الإلهية، لأن الأولى تقع تالية لها ومتفرعة عنها، وقرر الدستور بصراحة أن السيادة هي لله، وهو الذي منحها للأمة... وهكذا فإن الأمة هي الحاكم الأصلي بنحو مباشر أو غير مباشر، والسلطات الاعتبارية إنما تنبثق عن إرادة الأمة وصوتها. وإذا كانت السيادة والحكومة تنبثقان عن الأمة فإن الإشراف الشعبي المستمر هو شرط أيضا في تواصل ذلك الحق.
إن التجارب الإسلامية الحديثة في الحكم خصوصا بعد الربيع العربي تبنت في الواقع الديمقراطية بشكل أو بآخر، من خلال الاستفتاء والانتخابات القائمة على صوت لكل مواطن بغض النظر عن جنسه أو عرقه أو انتمائه، والفصل بين السلطات الثلاث التشريعية والتنفيذية والقضائية، وكون الشعب مصدر هذه السلطات، وغير ذلك من آليات وإجراءات الديمقراطية. هذه التجارب في المحيط العربي وما سبقها في المحيط الإسلامي ستجعل مسألة المصالحة بين الديمقراطية والدين أمرا متحققا على أرض الواقع، ولن تعود مجرد مسألة نظرية بحتة.