نحن والديمقراطية: هل من أمل؟ (3)
الافتراض الأول الذي ثبت عدم صحته من خلال الخبرة الثورية الأخيرة في تونس ومصر التي جاءت بالربيع العربي، هو افتراض "العجز والاستعصاء الديمقراطي العربي". هذا ما يذهب إليه أستاذ العلاقات الاقتصادية الدولية محمد عبد الشفيع عيسى. أما الافتراض الثاني فهو القول باندثار دور الطبقة الوسطى في المجتمع العربي تحت وطأة التفاوت المجتمعي بين أقلية ثرية وأغلبية محرومة. والافتراض الأخير من بين الافتراضات الخاطئة يتعلق بالقوات المسلحة، وما كان يقال قبل الثورة عن انزواء دورها في العملية السياسية.
ما يهمنا هو الافتراض الأول لآثاره البالغة والخطيرة على الحركة باتجاه الديمقراطية، ولما أوجده من قناعات حتى عند النخب المثقفة والمتصدية للتغيير بأن طريق التغيير مسدود مسدود مسدود. لقد فشل مشروع التنوير في العالم العربي، وبلغنا مرحلة "الانسداد التاريخي" كما أسماها هاشم صالح، الذي يعزو سبب الانسداد إلى هيمنة محموعة من اليقينيات المطلقة التي لا تقبل النقاش، والتي استخدمت في خلع المشروعية الإلهية على أعمال الإجرام والإرهاب.
لقد انتشر الافتراض الأول - بحسب محمد عيسى – في أوساط المثقفين انتشارا واسعا، إلى درجة بدا معها وكأنه حقيقة واقعة دالة على عجز متأصل في المجتمع العربي لاستعصائه المزمن على تقبل الديمقراطية... وبلغ الأمر حدا بدا معه أيضا أنه ربما يكمن العجز في الذهنية العربية نفسها، أو البنية العقلية العربية، وربما اشتط البعض فارتأى أن العقدة المستعصية كامنة في نوع من المورثات أو "الجينات" العربية ذاتها.
خطورة هذا الافتراض هي فيما يزرعه من إحباط ويأس قاتلَين لأي سعي للتغيير، وفي حبسه للذات داخل صندوق من التصورات الخاطئة عنها وعن قابلياتها وقدراتها، خصوصا إذا تلبست تلك التصورات بالعلمية، وتحولت إلى حقائق يقينية راسخة. إن عناوين من مثل (الديمقراطية العصية في الخليج العربي) و (الانسداد التاريخي) و (أوجه الخلل المزمنة الأربعة) تكشف إلى حد كبير من جهة عمق أزمة المجتمعات العربية في مسيرتها نحو التحول الديمقراطي، ومن جهة أخرى ارتياب المثقفين في حدوث التغيير إلا أن تحدث معجزة خارج التوقعات.
وهي بالفعل ما حدثت، ففاجأت الثورات العربية المعرفة، كما يقول الطاهر لبيب، وأن المعرفة التي لم تفاجأ لم تكن معرفة. ويكشف لبيب عن خطأ التصورات التي كانت مسيطرة على أذهان المثقفين بقوله: اليوم نعلم أن من سميناهم، بحرفية عالية، "فاعلين" ليسوا هم من فعلوا هذا الممكن (يقصد الثورة). من فعلوه "ناس عاديون" كانوا، في بحوثنا، كائنات هلامية نملأ بها جداول إحصاءاتنا. عودوا إلى بحوثنا لتروا كم هي رديئة فيها صورة الشباب العربي، وكم هي بعيدة "ميدانيتها" عن ميادين ثورتهم.
لقد أثبت الشباب العربي إذن أنه غير عاجز على اجتراح المعجزات، وأنه كغيره من شباب الأمم الأخرى يمتلك الطموح والإرادة والعزم والتصميم والقدرة على صنع مستقبل أفضل. ما يحتاجه الشباب العربي من مثقفيه هو مزيد من الثقة به، وعمل ميداني جاد لبنائه ديمقراطيا ليتخلص من سيطرة التضامنيات التقليدية عليه، وليكون مفهوم المواطنة حاضرا في فكره وسلوكه، بما يعنيه من مساواة في الحقوق والواجبات بين مختلف شرائح الوطن.
أخيرا نقول: يا مثقفينا تواضعوا، واقتربوا من الشباب حتى تفهموهم فيفهموكم.