نحن والديمقراطية: هل من أمل؟ (4)
بعد نجاح الربيع العربي في استبدال بعض الأنظمة العربية القائمة بأخرى، هل يمكن أن نقول بأننا بتنا قاب قوسين أو أدنى من بوابة الديمقراطية؟ هل سقوط الاستبداد يكفي لولادة الديمقراطية؟، أم إن الأمر يحتاج إلى شروط موضوعية أخرى، كي لا يحدث الالتفاف على الشعارات التي طرحتها جماهير الثورة المعبرة عن رغبتها في الانتقال إلى مجتمع أكثر حرية وعدلا وتنمية وكرامة.
سقوط الاستبداد يمثل في واقع الأمر البداية التي لا بد منها للبدء ببناء واقع جديد، وربما كان الأكثر سهولة أيضا. المقصود هنا السهولة النسبية طبعا، بسبب توفر الحالة شبه الإجماعية على ضرورة التغيير، وانخراط مختلف القوى في عملية إسقاط الاستبداد، وتجميد خلافاتها البينية حتى إشعار آخر.
ربما يتساءل البعض: لماذا تأجل قدوم الربيع العربي كل هذا الوقت؟ لماذا انتفض الشارع العربي متأخرا؟ لماذا انتظر تفشي الفساد والبطالة والقمع وهدر الحريات وغياب العدالة الاجتماعية؟ والجواب على هذا أن وجود تلك الظروف في بيئة ما يمثل مقتضيا للمطالبة بالتغيير، ولا يمثل علة تامة. إذ يبقى الشيء الأهم لانطلاق شرارة التغيير، وهو التخلص من عقدة العجز الاستثنائية التي نجحت الأنظمة الاستبدادية في ترسيخها حتى في أدبيات النخَب الداعية والساعية لإحداث نقلة اجتماعية وتنموية على كافة الأصعدة، استشعارا منها بالأخطار المحدقة، واستيئاسا من الفرص المواتية.
إن أعظم مقولة أنتجها الربيع العربي كانت في استعادة الشعوب ثقتها في ذاتها وفي قدراتها، والتي تجلت في الشعارات التي كانت تبدأ ب " الشعب يريد ..."، حيث كشفت عن وعي بالذات الجمعية، وعبرت عن إرادة مشتركة واضحة المطالب والأهداف. وشكل هذا العنصر الأساس لنجاحها في تحقيق ما تريد، بالإضافة إلى عناصر أخرى مساندة.
لقد تحقق الهدف الأولي المجمع أو شبه المجمع عليه، كما حدث في مصر وتونس وليبيا، فهل تأتي الديمقراطية بعد ذلك بشكل تلقائي. الجواب ببساطة: كلا. فالديمقراطية تحتاج إلى مجتمع يؤمن بمبادئها، ويمارس آلياتها في حياته. الديمقراطية ثقافة حياة قبل أن تكون إدارة حكم أو دولة. لا يمكن أن تنمو الديمقراطية في مجتمع متسلط غير متسامح لا يقبل التعددية ويقمع الحرية، ففاقد الشيء لا يعطيه. هذه بديهية لا شك فيها.
إن المسؤولية الكبرى اليوم تقع على النخب المثقفة في الاستفادة الكبرى من الظروف الراهنة التي أتت بها الثورات العربية للتكفير عن خطيئاتها السالفة، وذلك بالسعي الجاد المكثف لإحداث انقلاب منظومي (بارادايمي) في المجتمعات العربية كي تختار عن وعي وإرادة حرة الطريق إلى الديمقراطية الحقيقية المتمثلة في الحرية والمساواة والمشاركة السياسية كمبادئ، وفي الانتخابات والتعددية السياسية وتداول السلطة وفصل السلطات وحماية حقوق الأقليات كآليات لا تنفك عنها.
الطريق للديمقراطية طويل ومكلف، وقد بدأت المجتمعات العربية خطواتها نحوه، والأمل معقود على أن يأتي الجيل الجديد (الأخير زمانه) (بما لم تستطعه الأوائلُ) كما قال فيلسوف الشعراء المعري.