التجييش بالاستخفاف
يكشف المفكر الأمريكي نعوم تشومسكي في مقاله المعنون ب (عشر استراتيجيات للتحكم بالشعوب) عن استراتيجيات عشر تستخدمها دوائر النفوذ العالمية للسيطرة على الشعوب، وهي باختصار:
1) استراتيجية الإلهاء التي تهدف إلى إشغال الناس باهتمامات هامشية ومعلومات تافهة، للحؤول بينهم وبين التفكير الجاد في شؤونهم ومستقبلهم.
2) استراتيجية افتعال الأزمات والمشاكل وتقديم الحلول (المشكلة – التفاعل – الحل): كالسماح بانتشار العنف في منطقة ما أو افتعال أزمة اقتصادية، ليطالب الناس بالأمن أو الخبز ولو على حساب الحرية، ثم يتم تقديم الحلول الجاهزة لهم.
3) استراتيجية التدرج لتمرير ما لا يمكن تمريره اعتمادا على عنصر الزمن.
4) استراتيجية التأجيل: بكسب موافقة الشعب في الحاضر على تطبيق شيء ما في المستقبل. قبول تضحية مستقبلية يكون دائما أسهل من قبول تضحية حينيّة.
5) مخاطبة الشعب كمجموعة أطفال صغار: والسبب كما جاء في (أسلحة صامتة لحرب هادئة) هو "إذا خاطبنا شخصا كما لو كان طفلا في سن الثانية عشر، فستكون لدى هذا الشخص إجابة أو ردّة فعل مجرّدة من الحسّ النقدي بنفس الدرجة التي ستكون عليها ردّة فعل أو إجابة الطفل ذي الاثني عشر عاما."
6) استثارة العاطفة بدل العقل: وهي تقنية كلاسيكية تُستعمل لتعطيل التّحليل المنطقي، وبالتالي الحسّ النقدي للأشخاص. كما أنّ استعمال المفردات العاطفيّة يسمح بالمرور للاّوعي حتّى يتمّ زرعه بأفكار، رغبات، مخاوف، نزعات، أو سلوكيّات.
7) إبقاء الشعب غارقا في الجهل والغباء.
8) تشجيع الشعب على استحسان الرداءة، بدل التطلع للأحسن الأفضل.
9) تحويل مشاعر التمرد إلى الإحساس بالذنب: فلتفادي حدوث أي تمرد، يُجعَل الفرد يشعر بأنه هو المسؤول الوحيد عن تعاسته، وذلك بسبب عدم محدوديّة ذكائه وضعف قدرته أو جهوده. وهكذا، بدلا من أن يثور على النظام الاقتصادي يحطّ الفرد من ذاته ويغرق نفسه في الشّعور بالذنب.
10) معرفة الأفراد أكثر مما يعرفون أنفسهم: فمع علم بيوبوجيا الأعصاب وعلم الأحياء وعلم النفس التطبيقي وصل "النظام العالمي" إلى معرفة متقدّمة للإنسان، سواء عضويّا أو نفسيا، فتمكن من معرفة الأفراد أكثر من معرفتهم لذواتهم . وهذا يعني أنه في معظم الحالات، يسيطر "النظام" على الأشخاص ويتحكّم فيهم أكثر من سيطرتهم على أنفسهم.
عند دراسة التاريخ سنرى أن هذه الاستراتيجيات قد تم استخدامها أو أغلبها بشكل أو بآخر من قبل السلطات الغاشمة لضمان استمرار سيطرتها على رقاب الناس ومقدراتهم وثرواتهم.
وسنعطي مثالا على ما وصفها تشومسكي بالتقنية الكلاسيكية، أي استثارة العاطفة بدل العقل. وهي وسيلة ناجعة جدا تفعل فعلها القوي في الجماهير، فتصدر عنها ردود أفعال غير مدروسة وغير متزنة، وتتسم بالانفعالية الشديدة البعيدة عن المنطق والعقل.
قال يزيد في حديث لأهل الشام محرضا لهم على حرب الحسين ، مستثيرا عواطفهم، مخاطبا غرائزهم وعصبياتهم، حاشدا مجموعة من المزاعم، موظفا الرؤى المخترعة: نحن أنصار الحق. وأبشروا يا أهل الشام فإن الخير لم يزل فيكم. وستكون بيني وبين أهل العراق ملحمة وذلك إني رأيت في منامي كأن بيني وبين أهل العراق نهرا يطرد بالدم وجعلت أجهد نفسي لأجوزه فلم أقدر حتى جازه بين يدَيَّ عبيد الله بن زياد وأنا أنظر إليه.
فماذا كان ردة فعل الجماهير المُستثارة؟
يقول عبد الرزاق المقرم في كتابه (مقتل الحسين): فصاح أهل الشام امضِ بنا حيث شئت، معك سيوفنا التي عرفها أهل العراق في صفين.
هكذا انفعلوا مع الخطاب العاطفي، وأسلموا نفوسهم لرغبات السلطة لتمضي بهم حيث تشاء، كأنهم قطيع أنعام لا يملكون أي قرار أو قدرة على التفكير المستقل. وهذا ما يريده رأس السلطة الذي جَزّاهم خيرا وفرّق فيهم أموالا كثيرة، كما ذكر المقرم.
إنها استراتيجية الاستخفاف بالعقول التي مارسها فرعون من قبل، كما قال تعالى: (فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطاعُوهُ). يعلق السيد المدرسي في تفسيره (من هدى القرآن): لقد جرّد فرعون قومه من ثقل العقل و الإيمان، بما أثار فيهم من حبّ الشهوات الرخيصة، فأطاعوه، لأنّ الإنسان حينما يملك العقل والإيمان فإنّه سيكون رصينا وموزونا، لا تحرّكه العواصف، ولا تزيله القواصف، بينما إذا فقده كان كريشة تتقاذفه الرياح. ولقد كان فرعون- شأن كلّ الطغاة- يعرف أن منطق العقل والعلم والفطرة يؤيّد موسى ، ولكنّه انحرف عنه إلى إثارة العصبيّات، والتلويح بالإرهاب والإغراء، وبالتالي إزاغة الناس عن عقولهم الرصينة إلى شهواتهم الخفيفة.