موت لا يشبه الموت
كيف يكون (الموت أحلى من العسل) كما عبر القاسم بن الحسن في جوابه لعمه الحسين عندما سأله: يا بني كيف الموت عندك ؟!
كيف يصبح الموت مورد أُنس تشتاق له النفس وتستلذ به؟ كما أفصح الإمام علي عن علاقته بالموت في قسم عظيم، قائلا: "والله لابن أبي طالب آنس بالموت من الطفل بثدي أمه". وكما وصف الحسين حالة أصحابه مع الموت بقوله: يَسْتَأْنِسُونَ بِالْمَنِيَّةِ دُوني اسْتِئْناسَ الطِّفْلِ بِلَبَنِ أُمِّهِ.
(دققوا في الفرق بين تعبير الإمام علي عن نفسه، وتعبير الإمام الحسين عن أصحابه لتكتشفوا العلاقة الأرقى لصالح الإمام علي طبعا باعتباره (آنس) أي أكثر أنسا من الطفل ب (ثدي) وليس (لبن) أمه.)
كيف يفرح المرء باقتراب أجله، ويكون في غاية السرور منتظرا بلهفة ساعة اللقاء، تماما كما ينتظر العاشق معشوقه عند موعد ضربه له؟ فقد مازَحَ بريرٌ عبدَ الرحمن الأنصاري ليلة العاشر من المحرم، فقال له عبدُ الرحمن: ما هذه ساعة باطل؟ فقال برير: لقد علم قومي ما أحببت الباطل كهلا ولا شابا، ولكني مستبشر بما نحن لاقون.
كيف يصل حب الموت لدرجة الوله به، كما كشف الإمام الحسين ذلك بقوله: وما أولهني إلى أسلافي اشتياق يعقوب إلى يوسف.؟!
كيف ينقلب الموت من شبح مرعب مخيف إلى زينة جميلة، أو بتعبير الإمام الحسين : مخط القلادة على جيد الفتاة؟ وهو تعبير مكتنز بالمعاني الراقية، فكلمتا (خُط) و (مخط) بإيقاعهما اللذيذ الخفيف على النفس، المشحون بالجمال، ترسمان أو تخطان صورة جميلة للموت، والتعبير بكلمة (القلادة) وكلمة (الفتاة) وليس (قلادة) أو (فتاة)، له دلالته الجمالية. فالتعريف ب (أل) العهدية له تأثيره القوي أيضا، إذ الحديث ليس عن أي قلادة أو أي فتاة، بل عن القلادة المعهودة بزينتها الأخاذة، والفتاة المعهودة بجمالها الفتان، واختيار كلمة (الفتاة) بدلا عن (المرأة) له دلالته العميقة. كما أن الصورة تركز على موقع الزينة نفسه، وأنه هو بحد ذاته يحمل قيمة جمالية، فهو جمال في جميلة مزين بجمال. ونقصد بالموقع (جيد الفتاة)، حيث استخدام كلمة (جيد) أدل على المعنى المراد من كلمة (عنق)، إذ الجيد هو العنق الطويل، وليس أي عنق.
كيف يتم تصوير الموت بهذا القدر من الجمال؟
الجواب يتجلى في الدور المناط بالموت في دفع الإنسان نحو السير الحثيث في طريق التكامل المستمر عروجا إلى الله تعالى. وهو ما يظهر من خلال الآية الكريمة: ﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ﴾، فالموت في نظر القرآن ليس أمرا عدميا، بل هو مخلوق من مخلوقات الله تعالى، ليؤدي مع الحياة دورا أساسيا في توجيه الإنسان نحو التنافس على أحسن العمل، بل إن تقديم الموت على الحياة في الآية مشعر بدور أكبر للموت.
يقول السيد جعفر مرتضى العاملي في كتابه (مقالات ودراسات): "إن الموت هو سر الحياة، وهو يعطيها معناها ومغزاها وقيمتها. وهو غاية زينتها وبهجتها، وهو سر الطموح، وسر الحركة الدائبة باتجاه الأفضل فيها، وسر سعي الإنسان إلى كماله، وكدحه إلى ربّه، وسرّ ملاحقته لأسرار الكون وخفاياه، ليستفيد منها في ترسيخ حالة الأمن والسلامة القصوى في حاضره وفي مستقبله على حدٍّ سواء .
هذا بالنسبة للمؤمن. أما غير المؤمن فيرى في الموت خسراناً لنفسه، وبواراً لأهدافه وطموحاته، ولن يكون قادراً في الآخرة على نيل درجات القرب، ولا على الانطلاق في رحاب ملكوت الله سبحانه، أو الإحساس بجلاله وجماله، إحساساً حقيقياً وعميقاً، لا يقتصر على مجرد المعرفة الذهنية".
الموت هو مفتاح سعادة المؤمن في الدنيا، لأنه يذكره بالقيمة الحقيقية لهذه الدنيا الفانية، وهو السعادة نفسها حين يكون طريقا لإعادة صنع الحياة الدنيا لتكون خالية من منغصاتها من الظلم والفساد والاستبداد، ومحطة برزخية في العروج الكمالي إلى الله تعالى.
ولذا يقول الإمام الحسين : إني لا أرى الموت إلا سعادة، والحياة مع الظالمين إلا برما.
فطوبى للذين يصنعون من الموت غدا أفضل لأنفسهم ولغيرهم. طوبى لشهداء الطف الذين لا زالوا يعلمون العالم ثقافة الموت / الشهادة، وليس الموت / الانتحار أو الموت المجاني.