-1373
من لا يستطيع أن يتخيل، لا يستطيع أن يتقدم. فبداية التقدم نحو المستقبل، تكون في القدرة على تخيله، ومن ثم إعداد الخطط لصنعه، والسعي لتحقيقه وتجسيده.
إن المجتمعات التي تقمع خيالها أو تكبحه تبقى أسيرة لواقعها، ولا تتطلع لغد أفضل، وشعارها الدائم: ليس بالإمكان أفضل مما كان. بل إن بعضها يتمنى أن ينجز الغرب ما لا يؤمن به هو من دعواهم إمكانية السفر إلى الزمن الماضي، حيث إن قوانين الكون – من وجهة علمية بحتة حسب قولهم - ليس فيها ما يمنع تراجع الأجسام إلى الماضي ، كما أن قوانين الفيزياء النسبية المتعلقة بالحركة تصلح للتطبيق بنفس الفعالية عندما يعود الزمن للماضي.
بالطبع الغرب يريد أن يتمكن من اختراع آلة تسافر به للماضي لأسباب تختلف عما يريده القامعون الكابحون لخيالهم، فهو يسعى لفهم الطبيعة وقوانينها بشكل أفضل من أجل السيطرة عليها وتسخيرها له، وليكون قادرا على التحكم ليس في الماضي فحسب وإنما في المستقبل أيضا، حيث "يعتقد القائمون على معهد أندرسون بأن تلك العملية قابلة للتحقق علمياً أكثر مما يتصوره البعض بالرغم من أنها محيرة ومثيرة للاهتمام . يبحث المعهد المذكور عن حلول هندسية وعلمية لمسائل فيزياء الزمكان (الزمان والمكان) والتي قد تمكن من السيطرة على الزمن أو على الأقل في إحراز تقدم ملحوظ في ذلك المجال، ومن بين هذه الحلول بناء أول مفاعل "زمني"!". بينما يريد (الماضويون) في المجتمعات المتخلفة أن يوقفوا حركة الزمن، وأن يعودوا للوراء حتى ينعموا بنتاج الأجداد وأجداد الأجداد، وليتطهروا من أدران الحاضر، وليشتكوا للماضي غربتهم من الزمن الراهن وعداءهم للآتي. إذ أقصى ما يفكرون به حين يمتطون آلة الزمن أن يغيروا اسمها الحديث إلى اسم تراثي قديم، وأن يفعلوا ما جاء في البيت المشهور:
ألا ليت الشباب يعود يوما... فأخبره بما فعل المشيبُ
لا أدري لماذا نستشهد بهكذا أبيات تدل على تخلفنا وتضحك علينا الآخرين لو ترجمناها للغاتهم. إذ كيف نبرر لهم انشغالنا بالشكوى من المشيب للشباب العائد لنا بدلا من استثمار كل لحظة من هذا الشباب على فرض عودته في تحسين ظروف حياتنا الحاضرة والمستقبلية.
أريد اليوم أن نطلق لخيالنا العنان أكثر، وأن نتصور أنفسنا على متن آلة الزمن المتوجهة للماضي، لا لأسباب ماضوية، بل كمغامرة حقيقية نعيشها لنتعرف على أنفسنا بصورة أعمق، ولنتأكد بأم أعيننا من سلامة نياتنا ومواقفنا الحاضرة حتى نتمكن من الانطلاق نحو آفاق المستقبل بثقة راسخة.
يفصل بيننا وبين واقعة كربلاء 1373 سنة هجرية قمرية. نحن الآن في محرم 1434 هـ، والواقعة كانت في سنة 61 ه. لنتخيل أنفسنا الآن وقد هبطت بنا آلة الزمن ليلة العاشر من المحرم سنة 61 ه حيث التحضير والاستعدادات قائمة على قدم وساق للمعركة المصيرية الحاسمة. ولنسأل أنفسنا: هل نحن مستعدون وجاهزون فعلا لاتخاذ القرار الصحيح بالانضمام لجبهة الحسين التي يعلن قائدها بكل صراحة لأصحابه: "أني غدا أُقتل وكلكم تُقتلون معي ولا يبقى منكم أحد."؟!
المسألة ليست سهلة كما يتخيلها البعض وهو يردد: يا ليتنا كنا معكم فنفوز فوزا عظيما. فالذين شهدوا الواقعة وحققوا الفوز العظيم كانوا قلة القلة، وعددهم لا يبلغ المائة نفر من بين الأمة كلها، بينما كانت الآلاف المؤلفة في الجبهة المناوئة للإمام الحسين، والأغلبية مارست الصمت وسلبية الموقف.
تُرى هل سنستطيع اتخاذ قرار الأحرار الذي فعله الحر بن يزيد الرياحي حين قال: إني أُخيِّر نفسي بين الجنة والنار. والله لا أختار على الجنة شيئا ولو أُحرقت. أم سنتخذ قرار العبيد الذي تجلى في موقف عمر بن سعد حيث اختار العاجلة على الآجلة، وقال:
فو الله ما أدري وإني لصادقٌ * أفكر في أمري على خطرينِ
أأترك ملك الري والري منيتي * أم أصبح مأثوما بقتل حسينِ
حسين ابن عمي والحوادث جمة * ولكن لي في الري قرة عيني
إن الانضمام لجبهة الحسين لم يكن أمرا يسيرا، ولم يتأهل له إلا من استخلصهم الله لدينه ونصرة ابن بنت نبيه لأنهم وفروا في أنفسهم الأرضية المناسبة من الإخلاص والعزم والاستعداد لبذل الغالي والنفيس انتصارا للعدل والحرية والكرامة والإنسان وسائر القيم العالية التي يمثلها الإمام الحسين .
فلنراجع سجلاتنا الذاتية في عباداتنا ومعاملاتنا لنرى مدى انسجامها مع الحسين وقيم الحسين، لنكتشف مدى أهليتنا لجبهة الحسين، قبل أن نقول: يا ليتنا كنا معكم فنفوز فوزا عظيما.