مجتمع المؤسسات المنعشة 3
في كتابه (تخليص الإبريز في تلخيص باريز) تحدث الشيخ رفاعة الطهطاوي (1801-1873) عن رحلته لباريس أو باريز كما أسماها، حين أقام فيها إماما للبعثة المصرية المكونة من أربعين شابا تم ابتعاثهم لطلب العلم هناك. تحدث في هذا الكتاب عن باريس والباريسيين من سكنهم ومأكلهم ومشربهم وملبسهم وعاداتهم وتقاليدهم إلى دينهم ودستورهم ودينهم وعلومهم وفنونهم.
يقول في حديثه عن الباريسيين وحبهم للعمل" اعلم أن المركوز في أذهان هؤلاء الطوائف محبة المكسب والشغف به، وصرف الهمة إليه بالكلية، ومدح الهمة والحركة، وذم الكسل والتواني، حتى إن كلمة التوبيخ المستعملة عندهم على ألسنتهم في الذم هي لفظة الكسل والتنبلة".
أظن أن الطهطاوي لو كان قادما من مجتمع حيوي نشيط لما استوقفه شغف الباريسيين بالعمل لأنه الحالة الطبيعية، ولكنه كان يستحضر حالة الكسل والتنبلة التي تركها وراءه. كان هذا في القرن التاسع عشر، أما اليوم ونحن في القرن الحادي والعشرين، فالحال لا يزال منصوبا على التنبلة حيث كشفت دراسة حديثة أجرتها الدكتورة (آية ماهر) أستاذ الموارد البشرية في الجامعة الأمريكية أن الموظف المصري يعمل نصف ساعة يوميا فقط من أصل 7 إلى 8 ساعات عمل يوميا. ولا يتفوق الموظف العربي بشكل عام على أخيه المصري، خصوصا في القطاع الحكومي الذي يعاني من متلازمة التنبلة.
استحضرت كتاب الطهطاوي هذا، وفي بالي آلاف المبتعثين السعوديين في السنوات الأخيرة لمختلف دول العالم من أستراليا إلى أمريكا وما بينهما. المبتعثون للبلاد الإفرنجية كما يسميها الطهطاوي يُفترض أن يعودوا ليس بالشهادات العلمية وحدها، وإنما بخبرات جديدة اكتسبوها من خلال وجودهم في مجتمع حضاري متقدم إداريا وتنظيميا واقتصاديا وتكنولوجيا وسياسيا ومعرفيا.
وبالتالي فإن مسؤوليتهم كبيرة في إحداث التغيير والتطوير المطلوب في مجتمعهم بنقل التجارب الناجحة التي عايشوها عن كثب، وبث القيم السلوكية التي صنعت التقدم في تلك المجتمعات، مثل سيادة القانون، واحترام التنوع، وتشجيع الكفاءات، والمشاركة السياسية، والتفكير العلمي المنهجي، والانضباط والالتزام بالوقت، والمنافسة في مختلف الميادين، وتكافؤ الفرص، والعمل المؤسساتي، وغيرها.
كان يُفترض في المبتعثين أن يعودوا لديارهم بمجلدات ضخمة تخلص الإبريز وتلخص باريز الجديدة وغيرها كما فعل الطهطاوي.
غير أننا نشهدا فقرا كبيرا في هذا المجال، حيث لم يقم المبتعثون حتى الآن بكتابة تجاربهم ومشاهداتهم عن بلاد الابتعاث، خصوصا ما ينفع الناس منها ويمكث في الأرض، والذي نحن بأمس الحاجة إليه، وكأن حال المبتعثين حال غيرهم ممن يسافرون لأغراض أخرى سياحية أو دينية مثلا، ثم يعودون ليتحدثوا عن أسعار اللحوم والدجاج والطماطم هناك مقارنة بسوقنا المحلية، ولا يذكرون شيئا عن أحوال البلاد والعباد لأنهم لم يكلفوا أنفسهم عناء فهمها أصلا.
في بلاد الإفرنجة يعيش المبتعث في مجتمع المؤسسات المنعشة المنتشرة في كل مكان، والتي تغطي كافة الأنشطة تقريبا من مستشفيات، مستوصفات، جامعات، مدارس، معاهد، ومؤسسات حقوقية بيئية وخدمات إنسانية واجتماعية عامة لتوفير الغذاء والماء والدواء والملبس والمسكن وحماية المستهلك، وخدمات إغاثية، ومؤسسات بحثية، وجمعيات رعاية الأطفال والقصر، وجمعيات الرفق بالحيوان، وغيرها الكثير.
وهي مؤسسات فاعلة وذات أصول ضخمة، وبعضها عابر للحدود كمنظمة السلام الأخضر ومنظمة أطباء بلا حدود. مثلا تبلغ أصول مؤسسة بيل وميليندا غيتس Bill & Melinda Gates Foundation. أكثر من 37 مليار دولار، ومؤسسة فورد أكثر من 10 مليار دولار.
وتأتي تبرعات هذه المؤسسات من الأفراد والمؤسسات الوقفية المانحة ومن الضرائب. وبعض الأفراد مثل بيل غيتس ووارن بافت Warren Buffet يتبرعون بالمليارات. لذا فإن التجارب في تلك البلاد غنية جدا.
من هنا فإننا نتوقع من المبتعثين أن يعودوا لنا بحصيلة جيدة متميزة عن المؤسسات الخيرية التطوعية، وأن يطلعونا على تجارب الدول الأخرى في هذا المجال، وأن يساهموا في استحداث مؤسسات جديدة غير تقليدية تواكب العصر وتستجيب لتحدياته.
نتوقع منهم الدور الإيجابي الكبير في القضاء على تنبلة المؤسسات وتحويلها إلى منعشة.