مجتمع المؤسسات المنعشة 7
يتحدث البروفيسور الدكتور أحمد زويل في كتابه (رحلة عبر الزمن) عن زيارته إلى الإسكندرية عام 1980 قادما من أمريكا لإلقاء عدد من المحاضرات في مركز البحوث هناك، فيقول:
وقد ذكرتني تلك الأيام بأيامي الجميلة في الإسكندرية. وفي تلك الأثناء وقعت حادثة ذكرتني على الفور "بثقافة الاسترخاء" السائدة حتى بين الأكاديميين. فقد دعاني أستاذ جامعي لإلقاء محاضرة في الكلية، وحدد ميعاد المحاضرة الساعة الحادية عشرة صباحا، على أن يأتي هو ليصطحبني من الفندق في تمام الساعة التاسعة صباحا.
وبحسب ما تعودت عليه، فقد انتظرت في صالة الاستقبال في الفندق منذ الساعة الثامنة والنصف صباحا، وانتظرت صديقنا.. وطال الانتظار.. وأخيرا طل علينا في الساعة الحادية عشرة والنصف، وكنت متوترا، وعلى الفور سألته، بعد أن تبادلنا التحية: وماذا عن المحاضرة التي تحدد ميعادها بالساعة الحادية عشرة؟ فإذا به يرد في هدوء: ما عليك.. سوف نذهب الآن لحضور حفل غداء رائع، ويمكن أن تلقي محاضرتك باكرا (أي غدا).
وهنا قفز في ذهني السؤال التالي: هل يمكن أن يحدث هذا في جامعة كالتك Caltech (أي الجامعة التي يُدَرّس فيها هو في أمريكا، والتي يشغل فيها منصب أستاذ كرسي لاينوس بولنج للكيمياء وأستاذ الفيزياء)؟ والجواب بالنفي بطبيعة الحال.
ثم يكمل القصة: وذهبتُ بالفعل معه لحضور حفل الغداء، وكان حفلا بهيجا بمعنى الكلمة، وألقيت محاضرتي في صبيحة اليوم التالي، ولم تنتهِ الدنيا للتأخر يوما ولكن هذا يشرح الكثير!.
فعلا هذا يشرح الكثير. فالدكتور زويل هو الحائز على جائزة نوبل في الكيمياء عام 1999 عن بحوثه الرائدة في التفاعلات الكيميائية الأساسية باستخدام ومضات الليزر فائقة السرعة (الفيمتوثانية Femtosecond)، وهي المقياس الزمني الذي تقع فيه التفاعلات الكيميائية بالفعل، واستُخدمت تقنيته هذه فيما يمكن وصفه بأسرع كاميرا في العالم لتصوير التفاعلات الكيميائية كما هي.
الفيمتوثانية لا علاقة لها بالفيمتو الشراب الرمضاني الاسترخائي المعروف عندنا، والذي كما يقولون تتوارثه الأجيال. الفيمتوثانية التي اهتم بها زويل هي مقياس الزمن في عالم الذرات والجزيئات، تساوي جزءا من مليون مليار جزء من الثانية. ولتقريب الصورة إلى الأذهان فإن الفيمتوثانية بالنسبة إلى الثانية هي كمثل الثانية بالنسبة إلى 32 مليون سنة.
الدكتور زويل الذي اهتم بالفيمتوثانية ينتظر ساعتين ونصف موعدا لإلقاء محاضرته، ثم تؤجل لليوم التالي، والجواب ببساطة: (بسيطة، الدنيا مش حتخلص)..
إذا كانت مؤسساتنا الأكاديمية التي يفترض فيها أن تكون قدوة المؤسسات المنعشة تعاني من ترهل كبير، وتفضل الفيمتو على الفيمتوثانية، فكيف بالمؤسسات الأخرى؟
ذكرت صحيفة الشرق السعودية في عددها يوم 13/12/2012 تحت عنوان: (عاطلو التعليم العالي: خمسة آلاف مخالف على مقاعد التدريس في الجامعات.. والمحسوبيات تخلّ بتكافؤ الفرص)، ذكرت على لسان أحد هؤلاء العاطلين قوله: لدينا ملف يضم أسماء أكثر من خمسة آلاف شخص يخالفون الأنظمة في التعيين والشروط التي وضعتها الجامعات من خلال ما وصفه بالمحسوبيات في العلاقات العائلية للدرجة الأولي، منهم ست بنات لأحد مديري الجامعات السعودية يعملن معيدات في الجامعة نفسها التي يتولى والدهن إدارتها.
وقال إن لدى مدير جامعة آخر أربعة أبناء منهم بنتان تعملان معيدتين في الجامعة التي كان والدهما مديراً لها سابقاً.
وأشار، من ناحية أخرى، إلى عدم مطابقة وظائف بعض أعضاء هيئات التدريس في الجامعات لتخصصاتهم العلمية. وقال لدينا أوراق تؤكد أن هناك من يحملون تخصص خياطة ونسيج، لكنهم يدرسون علم النفس، وهناك متخصصون في الآثار يدرسون إدارة الأعمال، فضلاً عن السماح للأجانب بالتدريس دون تطبيق المعايير الحقيقية لاختيار المدرس الأجنبي النموذجي، وهو عكس ما يهدف إليه من تطبيق القرار باختيار الأفضل، مؤكداً أن لديهم ما يؤكد وجود ذلك في عدد من الجامعات ومنها الجامعات الناشئة في الجوف ونجران وجيزان وتبوك والطائف وغيرها.
كنت أود في هذا المقال مناقشة شروط ومواصفات الفرد المؤسسي والمؤسسة المؤسساتية، كما وعدتُ بذلك في المقال السابق، غير أن الحديث أخذني زاوية أخرى، لكنها تشرح الكثير أيضا في مجال انعدام أو ضعف البيئة المنعشة، مع سيادة ثقافة الاسترخاء والمحسوبيات.