مجتمع المؤسسات المنعشة 9
قبل عدة سنوات كانت موضة المسلسلات المكسيكية على الشاشات الفضية العربية، قبل غزو المسلسلات التركية في الوقت الراهن.أما ما هي مسلسلات المستقبل فلا حاجة لإتعاب أنفسنا في استكناه ما سيأتي به، لأنه رجم بالغيب!!، فما علينا سوى انتظار مولوده الذي يجود به الزمان.
وبرغم التقدم العلمي في مجال الطب في القدرة على تحديد الجنين مبكرا، مما يجعلنا نتهيأ له نفسيا وماديا، وبرغم نمو وتطور علم الدراسات المستقبلية التي تستشرف الغد المجهول لمعرفة المحتمل والممكن والمفضل؛ برغم كل هذا فإننا نصر على عدم إشغال وقتنا وجهدنا بالمستقبل. فالمستقبل قادم لا محالة، (واللي مكتوب على الجبين.. لازم تشوفه العين)، فلماذا نهتم به أصلا؟!
أعود لمسألة المسلسلات المكسيكية التي تفاعل معها الناس حينئذ، حتى أطلقت على بعض المحلات التجارية أسماء مكسيكية من شخصيات تلك المسلسلات. وهذه في الواقع ظاهرة تحتاج لدراسة أعمق لمجتمعنا، وأعني بها ظاهرة التأثر الانفعالي السريع مع الثقافة الوافدة المهربة عبر المسلسلات والأفلام دون تنبه لمخاطرها على القيم والأخلاق. مثلا مع موجة المسلسلات التركية الحالية، صارت استانبول محطة عامرة بالسياح العرب وخصوصا الخليجيين. وتحولت بعض شخصيات الممثلين إلى رموز هامة في الشارع العربي.
أما المسلسلات المكسيكية فكان من نصيبها يومئذ – كما أذكر- أن بلغ التفاعل معها حد الاندماج الفنتازي، حتى عقدت بعض النسوة البسيطات نذورات خاصة إن جرت أحداث المسلسل وفق ما ترغب أمزجتهن. والحمد لله أن المخرج المكسيكي ما تنبه لهذا، وإلا فإنه كان يمكن أن يغير الأحداث، أو يزيد في تعقيدها استدرارا لمزيد من النذور والدموع أيضا.
هذه الطريقة المغرقة في البساطة والسذاجة تمثل في واقع الأمر أسلوبا في الحياة ربما تتغير صوره من جيل لآخر، ولكن مضمونه يبقى واحدا، وهو الحلم بمستقبل جميل دون القيام بالتخطيط الحقيقي المناسب لصنعه، مع إيهام النفس بصنع شيء ما يشبه النذورات في غير محلها، لأنها معادلة صفرية.
مؤسساتنا الاجتماعية كي تنتعش فإنها تحتاج أكثر من الحلم والنذورات. تحتاج التخطيط الاستراتيجي بعيد المدى والعمل الجاد لتحقيق الرؤية المنشودة. وهنا نذكر بعض الشروط اللازمة للإنعاش المؤسسي:
- وجود رسالة واضحة للمؤسسة تحدد وجهتها وقيمها وأهدافها الكبرى.
- وجود هيكل تنظيمي حديث ينظم العلاقات بين مختلف المستويات التنظيمية بوضوح ودون التباس، ويتسم بالمرونة والقدرة على الاستجابة للمتغيرات.
- وجود دليل متكامل من الأنظمة والإجراءات للعمليات داخل المؤسسة.
- إسناد المهام المناسبة للأشخاص المناسبين واعتماد مبدأ الكفاءة أولا.
- سيادة ثقافة الانضباط والالتزام داخل المؤسسة. وهذه النقطة هامة جدا، حيث يعاني منه ما يسمى بالقطاع الثالث كثيرا. يلتحق البعض بعضوية المؤسسة التطوعية ولكنه لا يلتزم مثلا بحضور الاجتماعات، ويجعل العمل التطوعي على هامش جدول أعماله اليومي، أو على هامش الهامش.
- وجود الأنظمة الرقابية والمحاسبية ذات الكفاءة العالية.
- وجود الخطط الواضحة للتدريب.
- وجود قيادة حكيمة منعشة تستوعب الجميع وتمتلك قدرات تواصلية وتحفيزية متميزة.
- التفاعل الإيجابي المستمر بين المؤسسة والمجتمع أو المحيط الذي تعمل فيه أو من أجله.
قد يقول البعض: إن هذا كثير، ويكاد لا يوجد إلا نادرا، فكأنك تزيد المستحيلات الثلاثة التي قال بها العرب، وتصيرها أربعة، إذ تضيف المؤسسة المنعشة إلى الغول والعنقاء والخل الوفي.
والجواب: ما نضعه من شروط ومواصفات هو في سياق التطلع للكيان الأمثل، ولكن هذا لا يعني أبدا أن الإنعاش لا يتحقق إلا بمجموع هذه الشروط، وذلك لأن الإنعاش درجات متصاعدة، يتحقق منه في الخارج بالمقدار المناسب من اجتماع الشروط.