عندما يحب الله أحدا (3)
المعلم المتمرس يعلم أي تلاميذه يستحق أي درجة، ولكنه ومن أجل إقامة الحجة التامة على الجميع يقوم بامتحانهم، ومن ثم إظهار النتائج بناء على ما قدموه في الامتحان.
وكلما كانت أسئلة الامتحان أصعب، استطاع الامتحان أن يكشف الفروق الفردية بين التلاميذ. فالعبقري مثلا لا تظهر تمام عبقريته وتنكشف للآخرين إلا من خلال الأسئلة غير العادية، الأسئلة التي تعصر الذهن وتستنفر أقصى الطاقات. ودرجات الشرف العليا في الجامعات العريقة لا تُمنح حقيقة إلا لمستحقيها الذين اجتازوا أصعب الامتحانات وأبلوا أحسن البلاء.
في ضوء هذه المقدمة ربما نستطيع إدراك علاقة حب الله تعالى لأحد عباده المخلصين وبين شدة الابتلاء الذي يتعرض له في حياته، في نفسه أو ماله أو أهله أو ولده أو صديقه أو غير ذلك. كما نستطيع فهم الكثير من الأحاديث والروايات التي تجعل العلاقة بين الحب والابتلاء علاقة طردية.
فعن رسول الله : إذا أحب الله عبدا ابتلاه، فإذا أحبه الله الحب البالغ اقتناه. قالوا: وما اقتناؤه؟ قال: لا يترك له مالا وولدا.
إن نبي الله أيوب هو من الأمثلة الواضحة الحاضرة في الأذهان. فقد كان بلا شك محبوبا عند الله، ومن المصطفَين الأخيار، ومع ذلك تعرض لشتى أنواع البلاء من ذهاب ماله وفقد أولاده ثم صحته أيضا، حيث ابتلي بمرض شديد في بدنه.
وفي تفسير للعلاقة الطردية التي ذكرناها يبين الإمام موسى الكاظم سبب ذلك، فيقول: مثل المؤمن مثل كفتي الميزان: كلما زيد في إيمانه زيد في بلائه، ليلقى الله عز وجل ولا خطيئة له.
ويقسم الإمام علي الابتلاء إلى ثلاثة، لكل واحد منها غاية مختلفة. يقول : إن البلاء للظالم أدب، وللمؤمن امتحان، وللأنبياء درجة.
ويكشف لنا النبي في الحديثين التاليين أن البلاء يستهدف فيما يستهدف أن يحب المؤمن لقاء الله تعالى، وأن لا يركن للدنيا، لأنها بالنسبة له سجن يقيد حريته وانطلاقه للعالم الأسمى. يقول : هَبَطَ إِلَيَّ جَبْرَئِيلُ فِي أَحْسَنِ صُورَةٍ فَقَالَ يَا مُحَمَّدُ الْحَقُّ يُقْرِئُكَ السَّلَامَ وَيَقُولُ لَكَ إِنِّي أَوْحَيْتُ إِلَى الدُّنْيَا أَنْ تَمَرَّرِي وَتَكَدَّرِي وَ تَضَيَّقِي وَتَشَدَّدِي عَلَى أَوْلِيَائِي حَتَّى يُحِبُّوا لِقَائِي، وَتَيَسَّرِي وَتَسَهَّلِي وَتَطَيَّبِي لِأَعْدَائِي حَتَّى يُبْغِضُوا لِقَائِي فَإِنِّي جَعَلْتُ الدُّنْيَا سِجْناً لِأَوْلِيَائِي وَجَنَّةً لِأَعْدَائِي.
وعَنْ جَابِرٍ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ( ص): يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ يَا دُنْيَا تَمَرَّرِي عَلَى عَبْدِيَ الْمُؤْمِنِ بِأَنْوَاعِ الْبَلَاءِ وَضَيِّقِي عَلَيْهِ فِي الْمَعِيشَةِ وَلَا تَحْلَوْلِي فَيَرْكَنَ إِلَيْكِ.
وفي بيان آخر للإمام الصادق يوضح فيه خيرية ابتلاء المؤمن، يقول : فِيمَا أَوْحَى اللَّهُ إِلَى مُوسَى أَنْ يَا مُوسَى مَا خَلَقْتُ خَلْقاً أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْ عَبْدِيَ الْمُؤْمِنَ وَإِنِّي إِنَّمَا أَبْتَلِيهِ لِمَا هُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأُعْطِيهِ لِمَا هُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَزْوِي عَنْهُ لِمَا هُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا يَصْلُحُ عَلَيْهِ عَبْدِي فَلْيَصْبِرْ عَلَى بَلَائِي وَلْيَرْضَ بِقَضَائِي وَلْيَشْكُرْ نَعْمَائِي أَكْتُبْهُ فِي الصِّدِّيقِينَ عِنْدِي إِذَا عَمِلَ بِرِضَائِي وَأَطَاعَ أَمْرِي.
وفي نفس السياق يقول الإمام الباقر : «إِنَّ اللَّهَ- تَبَارَكَ وَ تَعَالى- إِذَا أَحَبَّ عَبْداً غَتَّهُ بِالْبَلَاءِ غَتّاً، وَثَجَّهُ بِالْبَلَاءِ ثَجّاً، فَإِذَا دَعَاهُ، قَالَ: لَبَّيْكَ عَبْدِي، لَئِنْ عَجَّلْتُ لَكَ مَا سَأَلْتَ، إِنِّي عَلى ذلِكَ لَقَادِرٌ؛ وَلَئِنِ ادَّخَرْتُ لَكَ، فَمَا ادَّخَرْتُ لَكَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ».
الابتلاء إذن عطية كريمة من العطايا الإلهية العظيمة التي تكشف محبوبية المؤمن عند الله تعالى، بل هو - أي الابتلاء - هدية ربانية؛ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ عليه السلام، قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ- عَزَّ وَ جَلَّ- لَيَتَعَاهَدُ الْمُؤْمِنَ بِالْبَلَاءِ، كَمَا يَتَعَاهَدُ الرَّجُلُ أَهْلَهُ بِالْهَدِيَّةِ مِنَ الْغَيْبَةِ، وَيَحْمِيهِ الدُّنْيَا، كَمَا يَحْمِي الطَّبِيبُ الْمَرِيضَ».
إن النظرة للابتلاء بهذه الطريقة سيجعلنا أكثر رضا بقضاء الله وقدره، وأكثر قدرة على امتصاص الصدمات وتحمل المصاعب والآلام، أملا في أن نكون مشمولين بمحبة الله تعالى.
دمتم بحب .. جمعة مباركة .. أحبكم جميعا.