تعلم الإملاء ضرورة أم ترف؟

 

 

يظن كثيرٌ من الناس أن الإملاء قليل الفائدة ، وأنه ينحصر فقط في حدود رسم الكلمة رسمًا صحيحًا ؛ غير أن هذا الكلام هو  السمة البارزة فيه ، لكن تبقى هناك أمور أخرى تؤديها سلامة الإملاء منها :أنه عونٌ للتلاميذ على تقوية لغتهم وإثرائها وتقويم النضج العقلي عندهم وهو من ملامح الثقافة ووسيلتها الكتابية التي تجعل المتعلم قادرًا على كتابة الكلمات بالطريقة الصحيحة التي تساير القواعد الإملائية ، وكثيرًا ما نقيس ثقافة المتعلم بمدى إجادته للكتابة الإملائية بشكل صحيح ؛ إذ من غير اللائق أن يكون المثقف غير ملمٍ بالقواعد الإملائية التي تضبط قلمه ، فعادة ما ينظر إلى الكاتب بازدراء وسخرية  إذا كانت كتابته مليئة بالأخطاء الإملائية ، ذلك لأن الإملاء هو آلة الكتابة وبه يبلغ الكاتب مراده ، ويحقق ما يصبو إليه من دقة المعنى ، فإذا أخطأ في الآلة فقد الطريق للكلمات التي يريدها ، وتعد إجادة القواعد الإملائية  من المؤشرات على مستوى ثقافة الكاتب ومستواه التعليمي ، كما أن معرفة الكاتب بالقواعد الإملائية يجعله يختار المفردة التي تناسب جملته مهما كانت طريقة كتابتها ؛ وقد حدّثني بعض الكتاب أنهم أحيانًا يتجنبون كتابة بعض الكلمات نظرًا لعدم معرفتهم بالقاعدة الإملائية فيختارون كلمة ربما لا تؤدي المعنى الدقيق المراد ،  والخطأ الإملائي يشوه الكتابة ويصعّب فهمها ، وكما أن القراءة بصورة مغايرة للمكتوب تؤثر على المعنى وتفسده أحيانًا مثل إشباع الكسرة في كلمة ( مالكِ ) من قوله تعالى ( مالكِ يوم الدين ) [1]، حيث يتوهم السامع بأن الكلمة هي جمع مذكر سالم حُذفت نونه للإضافة هكذا ( مالكي يوم الدين ) ، وهذا باطل ويغير المعنى بشكل بيّن ، ومن ذلك أيضًا مواضع الوقف والوصل في القرآن الكريم التي إن أخطأ فيها القارئ تغير المعنى المقصود مثل الوقف على كلمة ( الآخرة ) من قوله تعالى ( بل تؤثرون الحياة الدنيا والآخرة خيرٌ وأبقى )[2] ، كذلك الأمر يحدث عندما لا نجيد قواعد الإملاء بالشكل السليم ، إذ يتغير المعنى بشكل تام عما يريده الكاتب ، وقد تنبه أبو سعيد السيرافي[3] إلى ذلك ؛ حيث رأى أن الإملاء يدل على المعنى بشكل دقيق ، وذلك من خلال ملاحظته لقوله تعالى ( وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون ) [4]؛ إذ لاحظ مجيء الفعل (كالوهم ) من دون الألف الفارقة [5]وهذا يدل على أن الضميرالمتصل ( هم ) واقعٌ في محل نصب مفعول به ؛ فلو جاء الفعل بالألف الفارقة ( كالوا هم ) لأصبح الضمير ضميرًا منفصلاً في محل رفع مبتدأ ، فالرسم الإملائي هو الذي حدد كون الضمير متصلاً أم منفصلاً [6].

وقد يتغير معنى الجملة بشكل واضح بسبب الخطأ في الرسم الإملائي مثل قولنا ( يؤدب الأبناء آباؤهم ) ، فكتابة الهمزة على واو في كلمة ( آباؤهم ) دليل على رفعها لكونها فاعل وهو المعنى المراد من الجملة ، ولكن ماذا لو كتبها أحدهم على السطر ( يؤدب الأبناء آباءهم ) فكتابة الهمزة على السطر دليلٌ على أنها منصوبة وبالتالي هي مفعول به ، ويصبح معنى الجملة بأن الأبناء هم من يؤدب الآباء وهذا غير صحيح.

ولنا في قصة الفاصلة القاتلة التي تحكى في القصة الأسطورية خير مثال ؛ وذلك عندما أمر الملك العفو عن إعدام رجل فكتب ( براءة ، مستحيل تنفيذ الحكم ) لكنّ الطابعة أخطأت في مكان وضع الفاصلة فكتبت هكذا ( براءة مستحيل ، تنفيذ الحكم ) فنفذ الجندي هذا الأمر بسبب وضع الفاصلة [7].

وهذه القصة وإن كانت أسطورية إلا أنها تبين دقة أماكن وضع علامة الترقيم وكيفية تأثيرها على المعنى

ويرى أستاذنا الدكتور أبو أوس إبراهيم الشمسان [8] أن من فوائد الإملاء أنه يعين القارئ على التمييز بين المصروف والممنوع من الصرف ؛ حيث يرى أن جدوى إثبات الألف في مثل ( سماءًا )[9] هو تجنب الخلط بين ما ينون وما لا ينون لمنعه من الصرف مثل ( أصدقاء – أعداء ) ؛ فنقول ( زرت أصدقاءَ ) من دون تنوين ونقف بالسكون على الهمزة ، بينما نقول ( حاربت أعداءًا ) فتنون وإذا وقفت حذفت التنوين ووقفت بالألف، وكذلك يرى أن إثبات الألف يرشد القارئ إلى القراءة الصحيحة ؛ إذ كثير من الناس يقفون بالسكون على هذه الهمزة لما رأوها غير متبوعة بألف فهم يقرؤون ( ماءً – سماءً ) حين يقفون عليه ( ماءْ – سماءْ )والقياس الوقوف عليها بالألف ، فإذا كتبنا الألف بعد الهمزة ( ماءًا ) كانت علامة للقارئ فلا يقف عليها بالسكون [10]، وبغض النظر عن كون كتابة الألف في مثل ( سماء) قضية خلافية ، لكن تبين لنا مقدار تأثير الإملاء على القراءة .

ومن الأمثلة الواضحة على تأثير الإملاء على المعنى قوله تعالى ( وما هو على الغيب بضنين ) [11]فكتابة كلمة ( ضنين ) بالضاد فتعني ( بخيل ) ، أما كتابتها بالظاء ( ظنين )كما في بعض القراءات فتعني ( مُتهم )[12] ، وهنا نلاحظ أننا لو أخطأنا في كتابتها سوف يتغير المعنى تمامًا ، ومثلها كلمة ( الضالين )  التي تعني ( التائهين ) أم ( الظالين ) فتعني ( الجالسين تحت ظل الشجرة ) فالخطأ في الحرف يقلب المعنى .

ومن فوائد الإملاء أنه كاشفٌ للمعنى أحيانًا كما في قولنا ( ترعى الأمهات أبناءها ) ؛ إذ يصح أن تكون الأمهات هن من يرعين الأبناء ، ويصح أيضًا أن يكون الأبناء هم يرعون الأمهات ؛ حيث إن المعنى يحتمل الوجهين ، لكن كتابة الهزة على السطر ( أبناءها ) دليل على نصبها وبالتالي تكون مفعولاً به والأمهات فاعل ، فلو كتبتها هكذا ( ترعى الأمهات أبناؤها ) لأصبحت كلمة ( أبناؤها ) فاعلاً والأمهات مفعول به ، وعليه يكون الأبناء هم من يرعون الأمهات ، وهنا يتبين لنا أننا توصلنا للمعنى بقرينة الإملاء.

وأحيانًا تكون الهمزة دليلً على تحديد نوع الفعل مثل قولنا ( أعتذر عن الخطأ ) و ( اعتذر عن الخطأ ) فقطع همزة الفعل دليل على كون الفعل مضارعًا ، أما وصلها فدليل على كونه ماضيًا ، فالهمزة هنا هي الفيصل في تحديد نوع الفعل .

وقد يكون الإملاء دليل على الإعراب كما في قولنا ( سألتك ألا تغضب والديك) و ( سألتك أن لا تغضب والديك ) حيث إن دمج ( أن) في (لا) النافية دليلٌ كون ( أن ) هي الناصبة للمضارع الذي بعدها ، أما فصلها فدليل على أنها مفسرة بمعنى ( أي ) ويكون الفعل بعدها مرفوعًا .

وقد يدخلك الخطأ الإملائي في مأزق ديني وذلك عندما تخطئ في كتابة الجملة المشهورة ( إن شاء الله ) ، حيث يخطئ بعض الناس في كتابتها إذ يوصل ( إن ) مع الفعل ( شاء ) هكذا ( إنشاء الله ) وهذا خطأ واضح حيث يصبح معناها ( إيجاد الله ) وهو خلاف المعنى الذي يقصده الكاتب ، إذ يقصد الكاتب بمشيئة الله نفعل كذا ولكنه أخطأ في الرسم الإملائي.

والأمثلة كثيرة على أهمية الإملاء وتأثيره على المعنى ولكننا اقتصرنا على الجوانب السابقة لكونها تفي بالهدف المرجو وهو ضرورة إتقان القواعد الإملائية قدر المستطاع .

[1] سورة الفاتحة
[2] سورة الأعلى 17
[3] أبو سعيد الحسن بن عبدالله السيرافي عالم نحوي له شرح على كتاب سيبويه توفي سنة 368هـ
[4] سورة المطففين 3
[5] هي ألف تأتي بعد واو الجماعة للتفريق بين واو الجماعة والواو الأصلية للفعل وكذلك واو مع المذكر السالم .
[6] رسالة دكتوراة لـ( مطير المالكي ) بعنوان ( جهود السيرافي الصوتية في ضوء علم اللغة الحديث ) .
[7] مقدمة كتاب أساليب عملية لعلاج الأخطاء الإملائية لراشد الشعلان .
[8] أستاذ بجامعة الملك سعود بالرياض قسم اللغة العربية
[9] وهذه مسألة خلافية تناولناها في موضوع سابق ، حيث يرى الدكتور الشمسان كتابتها وهناك بعض العلماء القدامى قالوا بكتابتها مثل الرضي في شرح الكافية والسيوطي في همع الهوامع .غير أن المحدثين لا يثبتونها .
[10] مشاركة للدكتور الشمسان على الإنترنت في موقع ( شبكة ضفاف لعلوم العربية -قسم الإملاء ).
[11] سورة التكوير 24
[12] العلاقة بين الظاء والضاد تاريخيًا وصوتيًا ولهجيًا لـ( عبدالمنعم النجار ) .
معلم لغة عربية بمدرسة السلام الابتدائية بسيهات .