حببوا الله إلى الناس
كيف ينشأ الحب؟ هل يأتي من فراغ؟ أم إن الحب شيء يمكننا صنع مقدماته وتهيئة ظروفه المناخية المناسبة، ثم تختلف النتائج والآثار تبعا لاختلاف قابليات أودية القلوب، كما قال تعالى: ﴿أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها﴾.
في تفسير قوله تعالى ﴿وَلكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيانَ﴾ يقول صاحب تفسير الأمثل: "وفي الحقيقة أنّ هذه التعابير إشارة لطيفة إلى قانون اللطف أي «اللطف التكويني»
وتوضيح ذلك أنّه حين يريد الشخص الحكيم أن يحقّق أمرا فإنّه يوفّر له جميع ما يلائمه من كلّ جهة و يصدق هذا الأصل في شأن الناس تماما .
فاللّه يريد أن يطوي الناس جميعا طريق الحق دون أن يقعوا تحت تأثير الإجبار بل برغبتهم وإرادتهم، ولذا يرسل إليهم الرسل والكتب السماوية من جهة، ويحبّب إليهم الإيمان من جهة أخرى، ويضري شعلة العشق نحو طلب الحق والبحث عنه في داخل النفوس ويكرّه إليها الكفر والفسوق والعصيان. وهكذا فإنّ كلّ إنسان مفطور على حبّ الإيمان والطهّارة والتقوى، والبراءة من الكفر والذنب. إلّا أنّه من الممكن أن يتلوّث ماء المعنويات المنصبّ في وجود الناس في المراحل المتتالية وذلك نتيجة للاختلاط بالمحيطات الموبوءة فيفقد صفاءه ويكتسب رائحة الذنب والكفر والعصيان".
هكذا إذن يفعل اللطيف الخبير بعباده كي يأخذ بأيديهم إلى سبيل الرشاد رحمة ورأفة منه بهم. وكما يفعل هو جل شأنه ذلك، فإنه يأمرنا بممارسة تحبيبه إلى عباده. فقد ورد عن رسول الله أنه قال: رسول الله : إنَّ داوودَ قالَ في ما يُخاطِبُ رَبَّهُ عزّ وجلّ : يا رَبِّ ، أيُّ عِبادِكَ أحَبُّ إلَيكَ ، أُحِبُّهُ بِحُبِّكَ ؟ قالَ : يا داودُ ، أحَبُّ عِبادي إلَيَّ : نَقِيُّ القَلبِ ، نَقِيُّ الكَفَّينِ ، لا يَأتي إلى أحَد سوءاً ، ولا يَمشي بِالنَّميمَةِ ، تَزولُ الجِبالُ ولا يَزولُ ، وأحَبَّني ، وأحَبَّ مَن يُحِبُّني ، وحَبَّبَني إلى عِبادي . قالَ : يا رَبِّ ، إنَّكَ لَتَعلَمُ أنّي أُحِبُّكَ ، وأُحِبُّ مَن يُحِبُّكَ ، فَكَيفَ أُحَبِّبُكَ إلى عِبادِكَ ؟ قالَ : ذَكِّرهُم بِآياتي وبَلائي ونَعمائي .
وعنه : قالَ اللهُ عزّ وجلّ لِداوودَ : أحبِبني ، وحَبِّبني إلى خَلقي . قالَ : يا رَبِّ ، نَعَم أنَا أُحِبُّكَ ، فَكَيفَ أُحَبِّبُكَ إلى خَلقِكَ ؟ قالَ : اذكُر أيادِيَّ عِندَهُم ؛ فَإِنَّكَ إذا ذَكَرتَ لَهُم ذلِكَ أحَبّوني .
النفوس مجبولة على حب من أحسن إليها، فالإحسان صانع الحب. ولكن المشكلة تكمن في غفلة الإنسان غالبا عن الإحسان المُسدى إليه والنعمة التي يتقلب فيها، أو غفلته عن المحسن حين ينشغل بالإحسان عن مصدر الإحسان، وبالنعمة عن مفيض النعم. وهنا يأتي دور المذكِّرين بآلاء الله كي يعيدوا صياغة علاقة الإنسان بالنعمة والإحسان ليتوجه إلى ربه شاكرا لأنعمه، كما قال تعالى في حق إبراهيم في سورة النحل: ﴿إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (120) شاكِراً لِأَنْعُمِهِ اجْتَباهُ وَهَداهُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾(121).
ومن وسائل تذكير الناس وتحبيبهم إلى الله أن يكون الإنسان المتدين نموذجا راقيا في علاقاته بالآخرين حوله من أهل وأبناء وعشيرة وجيران وأصدقاء ومجتمع، أي أن يكون حريصا على رعايتهم وحفظ حقوقهم وحبهم واحترامهم، فإن بذلك يحبب الناس إلى الدين. إن أعظم من يمكن أن يسيء للدين هم المنتسبون له هوية البعيدون عنه حقيقة. هل يمكن أن يدخل الناس في دين الله أفواجا وهم يشهدون الصراعات الفاجرة بين فئات وطوائف تدعي ممارسة التدين بأنقى صوره؟ هل يمكن أن نقنع أحدا بأننا نعتنق دين الإنسانية والعالم يشهد من بعض المنتسبين للإسلام الأفعال الشنيعة من قتل على الهوية وقمع للحرية وتخلف على كل المستويات؟
إذا أردنا أن نكسب حب الله تعالى فعلينا أولا أن نحبب الناس إلى الله بتغيير واقعنا البائس اجتماعيا وثقافيا وسياسيا واقتصاديا وعلميا منطلقين من هدي الوحي. فالمعادلة كما وردت عن رسول الله هكذا: حَبِّبُوا اللهَ إلى عِبادِهِ يُحِبَّكُمُ اللهُ .
جمعة مباركة.. دمتم بحب.. أحبكم جميعا.