زراعة الحب
قبل أن تفكر في الثمرة، فكر في البذرة أولا، ثم في الأرض الصالحة. فالثمرة الطيبة هي نتاج الغرس الطيب، وخلافها خلاف ذلك، ﴿وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِداً﴾.
كلنا يود أن يكون محبوبا عند خلق الله تعالى، وبشكل أخص عند الصالحين منهم. لكن الرغبة وحدها لا تكفي لتحويل ما نود إلى واقع ملموس، بل لا بد من التعرف على قوانين الحب وطرق زراعة بذوره وريها ورعايتها حتى تتجسد شجرة مباركة نقطف من ثمارها الخير العميم.
سنتلمس في هذا المقال أهم قانون لتحقيق ذلك مسترشدين بهدي الوحي القرآني والسنة الشريفة. لعل أهم قانون للمحبوبية يمكننا استجلاؤه من القرآن الكريم هو تحقيق حالة الإيمان والعمل الصالح في ذات الإنسان. يقول تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا﴾.
جاء في تفسير الأمثل تعليقا على هذه الآية: والنقطة الرئيسية للآية، هي أنّ للإيمان والعمل الصالح جاذبية خارقة، فإنّ الاعتقاد بوحدانية اللّه، والإيمان بدعوة الأنبياء، والذي يتجلى نوره في روح الإنسان وفكره، وقوله وعمله، بصورة أخلاق إنسانية عالية، وكذلك يتجلى في التقوى والطهارة، والصدق والأمانة، والشجاعة والإيثار، فيها قوة مغناطيسية عظيمة جاذبة وخاطفة.
وحتى الأفراد الملوثون، فإنّهم يرتاحون للطاهرين الصالحين، ويتنفرون من القذرين أمثالهم، ولذلك فإنا نراهم- مثلا- إذا أقدموا على الزواج فإنّهم يؤكّدون على توفر جانب العفة والطاهرة والأمانة والصدق في الزوجة.
وهذا أمر طبيعي، وهو في الحقيقة أوّل مكافأة يعطيها اللّه للمؤمنين والصالحين في هذه الدنيا وتصحبهم إلى عالم الآخرة أيضا. لقد رأينا بأم أعيننا كثيرا من هؤلاء الأتقياء عند ما يحين أجلهم ويرتحلون عن هذه الدنيا، فإنّ الناس يبكونهم، بالرغم من أنّهم لم يكن لهم منصب ولا مركز اجتماعي، ولكن الناس يشعرون يفقدهم، ويعتبرون أنفسهم شركاء في مصاب هؤلاء وعزائهم. انتهى.
ومما يؤكد على هذا المعنى الحديث الشريف الوارد عن رسول الله ، وهو قوله: تفرغوا من هموم الدنيا ما استطعتم، فإنه من أقبل على الله تعالى بقلبه جعل الله قلوب العباد منقادة إليه بالود والرحمة، وكان الله إليه بكل خير أسرع.
ففي هذا الحديث دعوة إلى الإقبال على الله تعالى إقبالا صادقا منطلقا من موطن الحب وهو القلب وتفريغه لمحبة الله، فتزداد جاذبيته للقلوب كلما ازداد تعلقا بالله تعالى، بل يأتيه الخير مسرعا منجذبا لمجاله المغناطيسي.
وتأكيد آخر ورد في وصية الإمام علي بن أبي طالب لابنه الحسن (عليهما السلام) حين قال له: إنما يُستدل على الصالحين بما يجري الله لهم على ألسن عباده ، فليكن أحب الذخائر إليك ذخيرة العمل الصالح.
فالإيمان والعمل الصالح يجعلان الفرد محل محبة الله تعالى، ثم تنشأ عن ذلك محبوبية الفرد عند الآخرين. فعن النبي أنه قال: إذا أحب الله تعالى عبدا نادى منادٍ من السماء : ألا إن الله تعالى قد أحب فلانا فأحبوه ، فتعيه القلوب ، ولا يلقى إلا حبيبا محببا مذاقا عند الناس.
قد يسأل البعض: هل طلب المحبوبية عند الناس أمر مستحسن ومرغوب فيه؟ والجواب: نعم. هذا طبعا إذا لم يكن ثمنه سخط الله تعالى، إذ هو الأولى بالحب، وكل ما عداه محبوب بالتبعية.
ورد عن الإمام زين العابدين : اللهم اقذف في قلوب عبادك محبتي . . . وألق الرعب في قلوب أعدائك مني . . . أحبني وحببني ، وحبب إلي ما تحب من القول والعمل حتى أدخل فيه بلذة ، وأخرج منه بنشاط.
وجاء عن الإمام الصادق قوله: ثلاث لم يسأل الله عز وجل بمثلهن : أن تقول : اللهم فقهني في الدين ، وحببني إلى المسلمين ، واجعل لي لسان صدق في الآخرين.
فلنبحث عن الحب الصادق عبر بوابة الإيمان والعمل الصالح، تلك هي البذرة الطيبة لزراعة الحب الخالص.
جمعة مباركة.. دمتم بحب.. أحبكم جميعا.