حديث في التعصب (2)
كيف يمكن لمجموعة من البشر أن تنسلخ بشكل جماعي من إنسانيتها فتقدم على ارتكاب مجزرة بحق آخرين يشاركونها في القرية والمحافظة والوطن واللغة والدين والإنسانية، بحجة أنهم ينتمون لمذهب مختلف؟!
أي دين هذا الذي يسمح بجريمة كهذه؟
هل يمكن أن يصدق الآخر حديثنا عن الشريعة السمحة وأن الإسلام هو دين الحوار والوسطية والاعتدال وهو يرى مشاهد التطرف والضرب والسحل والقتل ترتكب مصحوبة بالتكبير والتهليل؟!
أليس هذا ما حدث في قرية زاوية أبو مسلم في محافظة الجيزة المصرية؟
أعلم أن الذي حدث لا يمثل الإسلام في صورته النقية كما جاء به النبي ، ويتعارض مع نص وروح وثيقة الأزهر حول منظومة الحريات الأساسية الصادرة في 8 يناير 2012 ، التي نصت مادتها الأولى: "تُعتَبر حريّةُ العقيدة وما يرتبط بها من حقِّ المواطنة الكاملة للجميع، القائم على المساواة التامة في الحقوق والواجبات حجرَ الزّاوية في البناء المجتمعي الحديث، وهي مكفولةٌ بثوابت النصوص الدِّينية القطعيّة وصريح الأصول الدستورية والقانونية".
كما جاء فيها أن "لكلِّ فردٍ في المجتمع أن يعتنق من الأفكار ما يشاء، دون أن يمس حقّ المجتمع في الحفاظ على العقائد السماوية، فللأديان الإلهية الثلاثة قداستها، وللأفراد حريّة إقامة شعائرها دون عدوان على مشاعر بعضهم أو مساس بحرمتها قولاً أو فعلاً ودون إخلال بالنظام العام".
أعلم كل ذلك، ولكن ما حدث يمثل قراءة من القراءات للدين أصبحت لها سوقها الرائجة في عالمنا الإسلامي اليوم، وهي قراءة من أخطر القراءات وأفتكها بالدين نفسه، لأنها ببساطة قراءة تكفيرية استئصالية تنصب نفسها وصية على الدين وتقيم محاكم تفتيشية على عقائد الناس، وتستبيح دماءهم وأعراضهم وأموالهم لا لشيء إلا لأنهم مخالفون لها.
إنها قراءة (المزايدة)، إذ إن أصحابها لا يقتنعون بأن ﴿لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ﴾، ويرون أنفسهم من حيث لا يشعرون أحرص على الناس من رب الناس الذي يقول في كتابه الكريم: ﴿وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ﴾ ﴿وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ﴾.
إن ما حدث في تلك القرية في مصر التي لم تعد محروسة من الفتن هو نتيجة الخطاب التكفيري التحريضي الذي مارسته المنابر الإعلامية المولغة في التعصب طيلة الفترة الماضية، حيث استطاعت تضليل وشحن فئة كبيرة ممن وصفهم الإمام علي بالهمج الرعاع أتباع كل ناعق، فغيبت عقولهم وآدميتهم، وجعلتهم يتصرفون كالضباع يتلذذون برائحة الدم وأنات وصرخات المعذبين.
لقد نجح دهاقنة التكفير في استثارة الغرائز العدوانية فزينوا لأتباعهم أعمالهم، حتى صار القتل على الهوية فضيلة يباركها "الرب"!!! تُمارَس بشكل علني في وضح النهار وتحت عيون الكاميرات وبصورة جماعية.
المسؤولية عما حدث تقع على المحرضين المؤججين لنيران الأحقاد، والذين يظلون دائما – وللأسف الشديد – خارج المحاسبة، لأنهم ليسوا بالفاعلين المباشرين، ولأنهم يمتلكون قدرة كبيرة على المراوغة والتخفي أو لتمتعهم بقدر كبير من الحماية فيبقون فوق سلطة القانون.
كما تقع أيضا على السلطات التنفيذية لتراخيها في الحفاظ على أرواح مواطنيها أيا كانت هويتهم الفرعية. ويشترك في المسؤولية أيضا أشباه المثقفين الذين يتخذون موقفا مهادنا من تصاعد وتيرة انتشار خطاب الكراهية ومن أصحابه تحت أي مبرر.
بل إن بعض هؤلاء يذهب إلى حد التماهي مع مثل هذا الخطاب، وينسى دوره التنويري المفترض.
إن الدبلوماسية في السياق الفكري كارثة إلى أبعد الحدود، كما يقول الكاتب محمد بن علي المحمود في مقاله في جريدة الرياض بتاريخ 10 يناير 2013. ويضيف: "الفكر - في أصله الوظيفي - لا يبحث إلا عن الحقيقة، فهو منها وإليها، ويجب أن يكون كذلك على الدوام .
صحيح أنه ليس كذلك دائما، أي في الواقع، لكن، عندما لا يكون الفكر باحثاً عن الحقيقة فهو ليس فكرا، وإنما مُنظّم علاقات عامة، أو ممتهن صناعة خطط للاحتيال.
وحينما يكون الفكر كذلك، يتحول المشتغلون به من طبقة المفكرين إلى طبقة زعماء العصابات الإجرامية.
فمن يسرق الحقيقة من العقول أو يتلفها أو يساهم في ذلك، لا يختلف كثيرا عمن يقتل، أو يُهرّب المخدرات، أو يرعى شبكات الدعارة، أو يسرق الأموال، أو يمارس التخريب والتدمير، بل هو أشد جرماً من كل هؤلاء؛ لأنه المؤدي - بسلوكه المدمر للوعي - إلى تفشي كل هذه الجرائم في واقع الناس.."