الحب في زمن الكراهيات المنفلتة
(كراهيات منفلتة) هو اسم كتاب للدكتور نادر كاظم من البحرين. وهو كتاب جدير بالاقتناء والقراءة المتأملة، يحاول استقصاء وتتبع سيرة الكراهيات المنفلتة في التاريخ وتأمل مصيرها الذي يبدو قادرا على الصمود والاستمرار رغم نشوء الدولة الحديثة التي تجرم خطاب الكراهية ورغم التقدم الكبير في وسائل الاتصال الحديثة التي تم توظيفها -وللأسف الشديد- من قبل السياسيين بشكل انتهازي للتحريض على سياسات الكراهية الجماعية، وذلك من خلال استثمار البيئة الاجتماعية الخصبة القابلة للاستحمار.
يقول الكاتب: "فإذا حصل أن اقتنعت جماعة سياسية ممسكة بالسلطة بأن بقاءها في السلطة مرهون بإضعاف بقية الخصوم والجماعات السياسية المنافسة، إذا حصل هذا فإن هذه الجماعة لن تتردّد في عمل المستحيل لضمان بقائها في السلطة حتى لو جرّها ذلك إلى الانخراط في لعبة إنتاج الكراهيات وإثارة الفرقة والفتنة وتأجيج الخلافات بين جماعات بعينها من أجل إشغال هذه الجماعات مجتمعة أو منفردة بأمر يهمها ويقلقها ويخرجها عن اتزانها وهدوئها، وذلك ليصفو لها الجو لتحقيق مآرب معينة لم تكن لتتاح الفرصة لتحقيقها دون هذا النوع من إشغال الجماعات وإلهائها وضرب إحداها بالأخرى. فالمطلوب هنا إثارة انفعالات معينة ثم استغلالها لتحقيق غرض ما".
ومن المؤسف أيضا أن ينخرط بعض المحسوبين على الثقافة في نفس هذه اللعبة القذرة، فينغمسوا في التضليل والتجهيل، ويكونوا من حيث يشعرون أو لا يشعرون أدوات يستفيد منها السياسي لتحقيق مآربه التي لا تخفى على الحصيف العاقل.
عندما أردت نحت عنوان هذا المقال حضرني كتاب (كراهيات منفلتة) بقوة فأدرجته في العنوان، لأننا بالفعل نمر بمرحلة خطيرة ومعقدة من انفلات الكراهية، خصوصا الكراهية على أساس ديني أو مذهبي، وتلك أخطر الكراهيات على مر التاريخ. وما تاريخ التعصب المذهبي بين الكاثوليك والبروتستانت في أوروبا ونتائجه الكارثية عنا ببعيد، وإن كنا لا نقرأ التاريخ أصلا، أو نقرأه قراءة مبتسرة غير واعية فيكرر علينا نفسه، فنردد مغتبطين: التاريخ يعيد نفسه. في الواقع، التاريخ لا يعيد نفسه إلا على الذين لا يعون أحداثه وفلسفته.
وعودا لعنوان المقال، حيث حضرني أيضا في ذات الوقت عنوان رواية (الحب في زمن الكوليرا) للكاتب الكولومبي الشهير (غابرييل غارسيا ماركيز) الحائز على جائزة نوبل للآداب في عام 1982 . فهل هناك من علاقة بين الكراهيات المنفلتة والكوليرا؟! أظن أن الأولى أشد فتكا بالإنسان والإنسانية من هذا المرض الخطير الذي يمكن محاصرته حاليا وعلاجه. أما الكراهيات المنفلتة فلا زالت عصية على الحل في مجتمعاتنا الإسلامية، كما أنها عابرة للحدود تنتقل عدواها من قطر لآخر دون انتظار تأشيرة دخول.
والسؤال هو: ماذا نفعل في مثل هذا الزمن التعيس؟ هل ننفلت مع خطاب الكراهية البغيض؟! والحال كما يقول سبينوزا: تزداد الكراهية إذا قوبلت بالكراهية. أم أن العلاج يكمن في الإصرار على نشر ثقافة الحب والتسامح واعتبار ذلك استراتيجية لا محيص عنها؟
جوابي سأستله من فقرة من دعاء مكارم الأخلاق للإمام زين العابدين علي بن الحسين يدعو فيها بقوله: وأبدلني من بغضة أهل الشنآن المحبة. فالمطلوب منا السعي الدائم لتحويل العداوات المستشرية والكراهيات المتشظية إلى محبة ما أمكن ذلك. وهذا لا يكون إلا من خلال العمل الدؤوب لفضح وتعرية خطاب الكراهية وآلياته ومآلاته، وإعادة إنتاج خطاب الحب وبث مفرداته في أرض الواقع. فالحب في نهاية الأمر أفعال، وليس خطابا سرياليا لا يمت للواقع بصلة.
دمتم بحب .. جمعة مباركة .. أحبكم جميعا.