حديث في التعصب (3)
تعرف الموسوعة العربية العالمية التعصب بأنه تشكيل رأي ما دون أخذ وقت كاف أو عناية للحكم عليه بإنصاف، وقد يكون هذا الرأي إيجابيا أو سلبيا، ويتم اعتناقه دون اعتبار للدلائل المتاحة. ويعني التعصب أيضا: الرأي السلبي تجاه أفراد ينتمون إلى مجموعة اجتماعية معينة، حيث ينحو الأفراد المتعصبون إلى تحريف وتشويه وإساءة وتفسير، بل وتجاهل الوقائع التي تتعارض مع آرائهم المحددة سلفا. فقد يعتقد الشخص المتعصب مثلا بأن جميع الأفراد المنتمين إلى سن معينة، أو أصل قومي أو عرق أو دين أو جنس أو منطقة ما كسالى، أو عنيفون، أو أغبياء، أو غير مستقرين عاطفيا أو جشعون.
التعصب إذن يعني التسرع والتعميم في الحكم، وتجاهل الوقائع الموضوعية لصالح الأحكام المسبقة والخضوع للتصورات الذهنية المبنية على المقولات الاجتماعية السائدة التي لم تمر بمرشحات الفحص والنقد. وبكلمة مختصرة: التعصب هو الانقياد الأعمى للعاطفة والمشاعر على حساب العقل؛ فهو لا ينمو إلا في بيئة حاضنة يغيب عنها العقل والحرية والفردانية، ويسود فيها الجهل والاستبداد وثقافة القطيع. وهو عبارة عن حالة انغلاق على الذات الفردية أو الجمعية تتمظهر في الخارج على شكل سلوكيات تهميشية وإقصائية وشطبية.
وفي مجتمعنا العربي تتضافر عوامل عدة على تكوين الفرد المتعصب والمجتمع المتعصب. تبدأ من التنشئة الأسرية والاجتماعية وتتعزز من خلال التعليم والمناهج الدراسية وتترسخ عبر الممارسات المختلفة ذات الطابع التعصبي التمييزي في المؤسسات الدينية والإعلامية والسياسية والاقتصادية والثقافية. فمنذ الطفولة يتم تلقين الفرد مجموعة من الصور النمطية السلبية عن الآخر الديني أو المذهبي أو القبلي أو المناطقي أو العرقي، وكأنها مسلمات لا تقبل النقاش والجدال. فلا يحق للطفل بحكم التسلط التربوي السؤال عن المفردات المكونة للصورة النمطية واختبار مصداقيتها، فهي ميراث الآباء والأجداد الذين لا يرقى الشك –نعوذ بالله منه- لمقولاتهم.
وفي المدرسة تتم برمجة الطفل علميا ليتخرج كائنا متعصبا من الطراز الأول، هو أبعد ما يكون عن العلمية والموضوعية. فالمناهج الدينية والتاريخية والأدبية تقتصر على رؤية أحادية لا تعترف بالأفكار والأطروحات المغايرة. وعلى الطالب أن يحفظ النصوص المفروضة عليه كأنها نصوص مقدسة لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها. كما لا يُسمح له بمناقشة المعلم في صحتها أو صحة استنتاجاتها، مما يحيل الطالب إلى مجرد ذاكرة اسفنجية تمتص كل ما يأتيها من ماء أو خمر أو سم أو غيره دون إدراك لماهيته أو تمحيص لصلاحيته. لقد تغلغل التسلط في المؤسسات التعليمية في عالمنا العربي، حتى أصبحت البحوث العلمية الأكاديمية في الإنسانيات لا تشكل إضافات تُذكر، حيث تُضيَّق عليها مساحة الحرية أفقيا وعموديا. بعض البحوث والرسائل والأطروحات العلمية يتم رفضها من البداية أو رفض نتائجها لاحقا لأسباب تعصبية. وبعض التخصصات يتم حظرها على فئات من الطلاب أو تحديد نسبتهم فيها لذات الأسباب.
وبعد ذلك ومعه يتم تكريس التعصب من خلال فشل السلطة في تحقيق مفهوم المواطنة على واقع الأرض، بل إنها قد تكون عقبة كأداء في عملية صهر المواطن في بوتقة الوطن الكبيرة بسبب ممارساتها التمييزية ضد فئة أو فئات من مواطنيها، ومعاملتهم على أساس أنهم مواطنون درجة ثانية أو ثالثة، أو بسبب غياب التشريعات التي تُجرم التمييز وتعاقب عليه. كما إن الاستبداد السياسي وضعف المشاركة الشعبية وغياب مؤسسات المجتمع المدني كل ذلك يساهم في استفحال داء التعصب في مجتمعاتنا العربية والإسلامية.
في ظل هذا المشهد المأزوم، فإننا لا نجانب الحقيقة إذا قلنا بأن إنشاء مؤسسات خاصة تعنى بدراسة وبحث التعصب وتشخيص أسبابه واكتشاف علاجاته من أهم الأولويات في محيطنا الإسلامي المبتلى بهذا الداء العضال حتى النخاع.