لجنة تراحم .. رسالة إنسانية
عند كتابتي هذه الكلمات لم أكن تحت التأثير العاطفي لما رأيت ، أو تعاطفاً لمن قابلت أو حاورت ، فقد كنت أكتب بأريحية تامة وعلى سجية من عقلي ، وكلي ثقة مما سألقيه بجعبة القارئ .. فلقد كنا على موعد مع انسانيتنا ، وهذا ما حصل واقعاً بعد أن رافقت بكل شرف لجنة " تراحم " ، والتي انبثـقت من لجنة التنمية الاجتماعية بسنابس التابعة لمدينة القطيف شرق المملكة العربية السعودية ، والوجهة كانت زيارة دار الإنسانية والرحمة ، أو كما يسميه البعض بـدار المسنين .. إنها وقفات تأمل عند محطة إنسانية ضائعة بداخلنا ، إنها لحظات لمراجعة حساباتنا وأعاده ترتيب أوراق حياتنا المبعثرة مع أنفسنا والأخرين .
ففي صبيحة يوم السبت المنصرم ، دعيت للالتحاق مع وفد اللجنة الكريمة ، وقد وصلنا المجمع الصحي الأهلي الواقع بمدينة سيهات شمال مدينة الدمام بالمنطقة الشرقية ، والذي وضع بصمات هذا الصرح الرسالي شخص غني عن التعريف بالنسبة لشعب الخليج كافة ، إنه الإنسان الحقيقي الحاج عبدالله المطرود رحمه الله ، والذي وضع لبنات تأسيس أولى الجمعيات الخيرية بوطننا الغالي ، حينها كان أهل المنطقة يفتقرون حتى إلي بيوت تأويهم ، فظهرت الجمعية آنذاك للوجود بمبنى مؤقت ، وفي عام 1382 هـ سجلت الجمعية رسمياً ، وكانت تسمى سابقاً صندوق البر ببلدة سيهات . تعتبر جمعية سيهات للخدمات الاجتماعية من الجمعيات الرائدة ، حيث تأسست في منتصف السبعينات الهجرية كأول جمعية خيرية في المملكة وقبل تأسيس وزارة العمل والشؤون الاجتماعية ، حتى توسعت الأعمال الإنسانية المنوطة بها ، وحتى أصبحت مقراً دائماً على مساحة كبيرة يرمقها الداني والقاصي .
لقد تناقلت أجيال المنطقة مآثـر وبصمات جمعية سيهات منذ أكثر من نصف قرن ، وخاصة صدى مجمع رعاية كبار السن والمعاقين ، والذي يستضيف نزلاء من أرجاء الوطن ، ومن شتى الجنسيات والأعراق ، وخاصة من رفض اهاليهم العناية بهم ، أو حالت بعض الظروف المادية أو الأسرية إلي احتوائهم ، ولقد جرت للمجمع عدة تعديلات توسعية وتطويرية ، وهو عبارة عن دار تأهيلية من عدة مبان ، ويضم كلا الجنسين بقسمين منفصلين ، ويشرف على هرمه الإداري منذ تأسيسه المؤسس وأبناءه الذين مازالوا يسيرون على خطاه ، وبالمجمع كادر موظفين من كافة الجنسيات ، ويتسمون بسمو الأخلاق الكريمة وبأرقى المعالي الإنسانية .
كانت اللفتة الجميلة لفريق تراحم إنسانية صرفة ، ولم تكن دعائية البتة ، وكأنها رسالة أو صرخة تقول " يوجد إنسان هنا نحتاج نحن أن نعوده " ، وهذا القصد من الزيارة ، وهو أن ينصهر هؤلاء النزلاء بالمجتمع وأن لا يصبحوا منسيون أو منبوذون ، وأن لا يفصلهم عنا جدران أسمنتية ، وكأن المجتمع لفظهم وأستغنى عنهم لانتهاء دورهم ، بل العكس ! فعلى الكل المشاركة وإقامة زيارة لهم ، وحتى وإن لم يكن لك قريب من بينهم ، والكلام موجه لكل الشعوب العربية ، فهنا إنسان كان له دور بطولي في هذه الحياة ، ولقد جارت عليهم الدنيا ، أو وقع لهم حادث عرضي ، فأصبحوا بدار مهجورة من أرحامهم وأقربائهم ، فبمجرد زيارة واحدة ستجد نفسك بمحطة تذكيرية تعيدك إلي نقطة الحسابات ، قبل الولوج بمتاهات الحياة الزائلة .
لقد أستقبلنا طاقم المجمع بكل حفاوة ، وخاصة ابتسامة مدير المجمع ، وقد حان وقت إبراز بعض مكارم من يعمل خلف الكواليس ، كالرجل الإنسان الأستاذ علي الزواد ، والمشرف النبيل صديق النزلاء الحاج عوض المصري الجنسية ، والمختص المشرف الوطني الخلوق ، والذي لا يحظرني أسمه ، فلقد وجدته يتعامل معهم وكأنهم أبائه ، وهو ابنهم البار ، فالكل هنا يعمل من أجل رسم بسمة على شفاه تلك الوجوه الكريمة ، والتي لم ترجح لهم كفة ميزان الحياة ، فتجد من بينهم من كل طبقات المجتمع ، وكانوا يوماً شخصيات مرموقة ، وذوو مناصب و
عزيزي القارئ ، هذه المقالة لا تختص بأهل منطقة معينة ، أو بدولة ، إنما لكل إنسان وجدت فيه قيم ومعاني الإنسانية ، فلقد أردنا من تلك اللفتة أن نوصل رسالة إلي ضمائر المجتمع المشغـول بإكسسوارات الحياة وزهوها ، وتمنينا أن تكون شعلة خير تضيء للآخرين الطريق ، ولكي تحذوا باقي المؤسسات واللجان الأهلية والدوائر الحكومية ، وحتى التجمعات العائلية ، فلا بأس لو عزمت مجموعة من الأسر وقامت بزيارة دار كبار السن بمنطقتهم .
أن الشعب الذي يحب ويحترم ويصل تاريخه وحضارته ورجاله ، شعب متحضر وراق وأصيل ، فهو لم يجحد ممن أسسوه وبنو أمجاده وتعبوا من أجل قيامه وازدهاره ، وهذا ما يحصل الآن لمعظم شعوب العالم ، ولتعلموا إن الصينيون مازالوا يأبنون ويزورون أضرحة أجدادهم المقاتلين ، ويعيدون أمجادهم ، الذين لقوا حتفهم قبل ألاف السنين ، والقصد منه إيجاد عبرة من بصماتهم وآثارهم ، فهو مداد وامتداد أخلاقي وبطولي لتك الحضارة ، وإنهم مازالوا على النهج والعطاء، وإن الحضارة لا تستمر دون رجال الأمس .