أوطان قابلة للتفكيك
لم نكن نعلم الكثير عن شبه جزيرة القرم قبل أن تتصدر نشرات الأخبار العالمية هذه الأيام، بل ربما لا نلتفت لها حتى بعد أن أصبحت أزمتها مالئة الدنيا وشاغلة أمريكا وأوروبا وروسيا ومجلس الأمن. فالقرم بعيدة عنا جغرافيا، ويكفينا ما نحن فيه من فائض أزمات تمتد على طول العالم الإسلامي عموما والعربي خصوصا، والتي يزيدها عامل الوقت اتساعا وعمقا!!.
لن أثقل رؤوسكم بالحديث عن أزمة تحدث في مكان ما في أوروبا، ولكني سأتوقف قليلا عند هذا الموضوع مستخلصا منه بعض الدروس التي لا ينبغي أن نمر عليها مرور الكرام. شبه جزيرة القرم كانت تتبع لدولة أوكرانيا إلى ما قبل الاستفتاء الذي جرى قبل يومين، وبالتحديد في 16 مارس 2014، حيث صوتت أغلبية ساحقة تفوق 95% لصالح الانفصال عن أوكرانيا والانضمام للاتحاد الروسي.
تكشف النسبة العالية عن حالة من الاستياء الشديد لدى أغلبية سكان القرم من الحكومة الأوكرانية التي لم تستطع إغراء القرميين بالبقاء فيها.
فمنذ العام 1991، أي بعد استقلال أوكرانيا عن الاتحاد السوفياتي السابق، كان سكان القرم يعامَلون كمواطنين من الدرجة الثانية، وتم إلغاء الروسية كلغة رسمية في شبه الجزيرة، مما شكل معاناة نفسية كبيرة للسكان الذين يتحدث غالبيتهم الروسية
فالقرم تتكون من ثلاث مجموعات عرقية هي الروس الذين يشكلون الأغلبية، ثم الأوكرانيون، ثم تتار القرم. ما حدث في الاستفتاء كان أمرا متوقعا، تماما كما كان الأمر في عام 2011 حين صوت الجنوبيون بنسبة 99% للانفصال عن السودان، وكما كان أيضا في كوسوفو قبل ذلك في العام 2008 حين انفصلت عن صربيا.
الدرس المستخلص هنا هو أن الانفصال ما كان ليحدث لولا وجود ما يمكن أن نسميه ”معامل القابلية للانفصال“، مستعيرين المفهوم الأشهر للمفكر الجزائري الراحل مالك بن نبي، أي مفهوم ”معامل القابلية للاستعمار“. يعني هذا المعامل وجود أرضية خصبة لقبول فكرة الانفصال بسبب ظروف موضوعية داخلية، عمادها في أغلب الحالات التهميش والإقصاء. أما العامل الخارجي فإنه يستثمر تلك الأرضية لخدمة مصالحه وتحقيق مآربه.
أما ما يسمى بالقانون الدولي فإن الدول الكبرى تستخدمه ساعة تشاء، وتعطله ساعة تشاء. هذا هو الدرس الآخر المستفاد. في الماضي القريب حينما قامت كوسوفو بإعلان استقلالها عن صربيا، قامت الولايات المتحدة الأمريكية بدعمها، في حين عارضت روسيا هذا الانفصال وبشدّة، واليوم تذرعت موسكو بهذا لتبرير التصويت على الانفصال في شبه جزيرة القرم. إنها - باختصار - لعبة الأمم التي من أدواتها القانون الدولي وما يسمى بالمجتمع الدولي والرأي العام العالمي وبقية المسميات الفضفاضة التي يجيد تطويعها الكبار.
ما حدث في شبه جزيرة القرم ليس عصيا على الاستنساخ في عالمنا العربي والإسلامي إذا ارتأى اللاعبون الكبار في الساحة الدولية فعل ذلك واستثمار الظروف الداخلية المساعدة. اليمن يمكن أن يعود يمنين أو أكثر؛ الأكراد قاب قوسين أو أدنى من الانفصال عن العراق؛ سوريا يمكن تفكيكها لأكثر من جزء. هذه مجرد نماذج لا تخطئها عين المراقب.
ليس المهم متابعة نشرات الأخبار لمعرفة ما يحدث في شبه جزيرة القرم من تفاصيل، بل الأهم قراءة ما وراء الحدث.