راؤول وموهان!.. من الأدب الهندي
أمتهن الشقيقان راؤول وموهان الفلاحة لمدة تزيد على أربعين عاماً بإحدى مقاطعات بانجلور بالهند، وكان نهراً يفصل بين مزرعتيهما، وقد كانتا قبل عشرات السنين مزرعة واحدة أيام أبيهما بعد أن فصلهما الخور الكبير القادم من السيل الجارف، والذي مر وسطها وفلقها نصفين، وبدت وكأنها بحيرة طويلة، فأخذ كلاً منهما مزرعة.
وقع سوء فهم بين الأشقاء وهما على مشارف الستين، حتى تحول إلي شرخ بالعلاقة بسبب الأختلاف في عدد ساعات العمل مع آلة الحصاد الكبيرة، والتي جلبوها من المانيا أيام أبيهم قبل ثلاثين سنة، حتى تحول الأمر إلي صراع بينهما وبين الأبناء والعمال، ولم يعد تبادل الأيدي العاملة أو الآلات في القائمة لمدة ثمانية أشهر، فتغلغل الشيطان بالعقول، ودمرت الماكنة، وأصبح كل أخ يعمل لوحده، ويستأجر المعدات لوحده ويحصد لوحده.
في صبيحة أحدى أيام فصل الخريف، أي بعد موسم الحصاد، طرق نجار باب راؤول، وكان نجاراً مسناً يحمل صندوقاً خشبياً، شاكياً ضعف حالته وأن لديه أسرة معظمها من البنات، فطلب ”أنجليسيس“ أي عمل يقوم به بالمزرعة مقابل حفنة من الروبيات، فأجابه راؤول ب ”نعم“، وأخذه لمسافة داخل المزرعة حتى أشراف الماء، وقال أنظر خلف الخور، ماذا ترى هناك؟ هذه مزرعة قريبي وأسمه موهان، وفي الواقع كنا إخوة وشركاء في العمل، ويوجد بيننا مرج أخضر صغير آخر الخور يصل بيننا، فهو يطول وقت الجزر، ويقصر وقت المد حتى تختفي الأرض، وكنا نلتقي عليه وقت الإفطار مع شروق الشمس، ثم نختم يومنا بكوب شاي عند الغروب، وهذا حدثنا كل يوم، لذا أريدك أن تحظر كومة أخشاب من الغابة، وتبني سياج بوسط المرج بارتفاع عشرة أقدام على الأقل، كي لا أرى رأسه يمر من هنا أو هناك فيسلم علي، ولن يمكن لأحدنا رؤية الأخر، وسنضمن أننا لن نلتقي حتى يفرقنا الموت! وللمعلومية، أنا ذاهب إلي المدينة الأن وسأعود آخر النهار، وأريد أن أرى السياج قد انتهى ”لاحظ النجار دموع راؤول حبيسة عينيه“
وافق أنجليسيس العجوز، فجمع الأخشاب بمساعدة الفلاحين، وبدأ العمل حتى انتهى النهار، وعند عودة راؤول إلي المزرعة، فتح عينيه الواسعتين، وأنخفض فكه، فلم يكن هناك أي سياج على الإطلاق! إنه فقط جسر خشبي يربط بين ضفتي الخور، فصرخ أين النجار اللعين! فأتاه أنجليسيس وقال: مهما يكن ومهما يحدث، فلا يمكننا أن نضع جداراً بين الإخوة، فالدم واحد، والعرق واحد، وقد خرجتم من بطن واحد، ورضعتم من ثدي واحد، وأعتقد أن سياج خشبي لن يمسح ذاكرة ستين سنة من عمركما تحت أشعة الشمس والقمر، ملؤها سعادة وحزن وكسرة خبز وشربة ماء.
في الأثناء، كان موهان ينظر من الطرف الأخر من الجسر، وسمع كل ماجرى، فمشى خطوات على الجسر ودموع عينيه على وجنتيه، فمشى راؤول أيضاً متجهاً إليه، وكل هذا أمام مرأى الفلاحين، ففتحا ذراعيهما وتعانقا بحرقة وبكاء، فأبكى الموقف كل الحاضرين، وأخذا يضربان بعضهما على الصدور، ألماً وحسرة، فوقف النجار أمامهما مبتسماً، فسألاه، من أنت؟ فقال أنا ممن فرقته عن أخوته إكسسوارات الحياة، فقد كنت شريكاً مع أخي بكل شئ، وأختلفت معه يوما ما، فبنيت جدارين يفصلاني عنه بالبيت والمزرعة، وفي يوم ما سمعت أخي يحتضر ويصرخ من الألم، وينادي بأسمي طالباً الغوث مني ”أخي موهان! أين أنت أبن أمي!“ فلم أستطيع أجابته لوجود السور، وعندما حضرت عنده قد فارق الحياة، إذ لدغه ثعبان سام، وكان حينها وحيداً، فوضعت رأسه بحجري، فبكيت ثم بكيت حتى جن علينا الليل، وبكيت حتى ُعصر قلبي لسنوات، فكيف بي إذ بنيت سوراً أمام أخي الذي رباني وعلمني ودربني، ثم فارقني وهو يطلب العون مني! بئساً لك من نفس وغفلة وعصبية! فعاهدت الله أن أعمل نجاراً حتى آخر عمري، وأن أبني جسور المحبة بين الأخوة، وقد سمعت عن قصتكم وحضرت من قريتي البعيدة، والأن سأنصرف وسأبحث عن محتاجين لجسر آخر.
هي رسالة إلي كل قارئ يمتلك روح الإنسان الحقيقي، وأن الدنيا زائلة بزبرجها وألوانها، وتبقى جسور الأخوة والمحبة والسمعة الصالحة يتوارثها الأجيال، بسم الله الرحمن الرحيم ”إنما المؤمنون إخوة“.