الخطوط العريضة بين التماهي والتوازي«مراجعة في التعصب الفكري»
تمر على الإنسان حالة من التشبع الفكري «الديني - السياسي - الأدبي - الفكري» مما يجعله يعيش حالة من التعصب لما يؤمن به ويعتقده، ثم ينتقل بعدها إلى التفهم والانفتاح وقبول الآخر، وقد لاحظت أن هذه الحالة تمر بثلاث مراحل:
الأولى: البدايات، حيث تكون الخطوات الأولى بداية الدخول في إحدى هذه البوابات، ويكون الأخذ منها عاما، لم يحدد المرء أي مدرسة أو خط يسلك، فتراه يبجل جميع الاتجاهات، ولا يختلف مع أحد، في حالة من البساطة المعرفية من حيث الاطلاع، وحسن نية دائم بالجميع.
الثانية: مرحلة الاختيار والتعمق في اتجاه معين، والذوبان في خط بعينه، وفي هذه الحالة تبرز حالة التعصب للفكرة، وإقصاء الآخر، بل ومحاولات التسقيط أحيانا، وفي الغالب يكون هناك شخص يمثل أيقونة لهذه المرحلة يُحتذى به، وقد يغذي هذا التوجه بشكل مباشر أو غير مباشر.
الثالثة: اتساع الأفق وبداية الانفتاح العقلي والإنساني، وفيها يبدأ المرء بتفهم الآراء المخالفة، والتراجع عن بعض الأفكار تجاه الآخر، والتخفف من إساءة الظن بالآخرين، فيبدأ بالعودة للاندماج والتواصل الاجتماعي والفكري، مع المحافظة على القناعات الأولية والثوابت لديه، وقد يتراجع عن بعضها.
وقد عشنا جميعا - ومنهم أنا - مراحل هذه العملية في مجالات عدة.
وأتذكر حالةً في مجتمعنا الأحسائي مثلا من الناحية الدينية، كانت الخطوط المشهورة «الخوئيون، الشيرازيون، الميارزة، الخمينيون، والروحانيون»، وكانت إسقاطات المراحل الثلاث السابقة بارزة في هذا الخصوص بشكل جلي، ففي السابق كان التواصل الاجتماعي بارز وواضح، وكانت قاعدة البسطاء المعروفة عن العلماء «كلهم على هدى» هي السائدة، ثم جاءت مرحلة التراشق وإبراز الخلافات، فبدأ الهجوم على الشيرازيين والميارزة والخمينيين والخوئيين والروحانيين من بعضهم البعض، حتى اختلط الحابل بالنابل، وأغلبنا دخل في هذه المهاترات أو شهدها ووقف عليها عن قرب، حتى دخلت كل بيت تقريباً.
ثم بدأ الوعي يسود، فتفتحت أعين الناس على الدمار الذي سببه هذا الأمر، وأهمية نبذ القطيعة الاجتماعية بسبب الخلافات العلمية، وهذا ما بدأنا نتلمسه في الوقت الحالي من قبل الكثير من العلماء والمفكرين والمثقفين الذين عاشوا حالة من المراجعات الفكرية.
وكما ذكرت، فهذا الأمر ينسحب على المثقفين الدينيين والليبراليين والعلمانيين واللادينيين، وكذلك الشعراء كما نشهده في صراع الشعر القديم والحديث، والعمود والتفعيلة، والوزن وقصيدة النثر، وكذلك في السرد والقصة القصيرة والقصة القصيرة جداً.
الصراع سنة الحياة، ولكن الأهم أن نخرج منها سالمين بأقل الخسائر، وأن نتفهم وجهات النظر المغايرة، ونغلّب حسن الظن، وأن نوسع آفاقنا بالاطلاع على تجارب الآخرين وخبراتهم، وكما ورد في الأثر: «أعقل الناس من جمع عقول الناس إلى عقله».
دائما أتذكر كلمة سماحة المرجع المدرسي «دام ظله»: «دع ألف مدرسة تفتح، وألف وردة تعبق».
وأنا أهديكم جميعا ألف وردة من الأعماق، بعد الشوك الذي أدماني وأدماكم.