المطلوب أن أكتب من دون أن أقع في فخ من ينتظر شيئاً مني
أمجد المحسن: على الشعر ألا يبحث عن التصفيق ففي هذا مقتله
يؤكد الشاعر السعودي أمجد المحسن أن كتابه ”سهرة عباسية ”لم يكن الأول، بل كان اختياره الواعي ليكون الديوان الأول المطبوع، لأنه تصعيد لمشوار حرث لغة شغلته وشغلها في نصوص سابقة، ويقول: بعيداً عن هذا الكلام الذي يشبه الادعاء، أحسبني لو كنت أملك أن أطبع كتاباً قبل السهرة، كنت لفعلت في عام الألفين على أكثر تقدير، ولستُ متأكداً إن كان حسناً أني لم أفعل“. وعن الموسيقى الشعرية يقول: ”الموسيقى الشعرية ركن آخر من أركان عملي، تدور بي حيثما أدور، وبالطبع أترك لمن يقرأ أن يفند ويقرر. الفكرة تختار ثوبها، العصَب، الروح، المزاج، آنئذٍ، هو ما يقرر إلى أي الجهات أمضي، ما زلت أناكف الخليل بن أحمد حتى في تفاعيله لهوسي بابتداع أو اكتشاف ما تحمله الإيقاعات من احتمالات”. وعن جمهور الشعر يقول انهم ”موجودون وحاضرون، ومتشوقون لقراءة الشِعر وروايته والتغني به، ينتظرون وأنا واحد منهم على كل حال، قصائد الشعراء بفارغ الانتظار. فقط على القصيدة أن تكون قصيدة. القارئ موجود ومستعد للتلقي”مزيد من التفاصيل في هذا الحوار:
تكتب الشعر منذ التسعينات ولم ير ديوانك الاول النور قبل العام 2009 لماذا؟
ربما لم أكن مستعداً، ربما لمزاجي الشخصي، ربما ليقيني أنَ على الشاعر أن يتقدم إلى قارئ الشعر المفترض بقصيدة جديدة، لا نمطية، تضَع القارئ أمام ما اعتاده، في حمى أسئلة حقيقية عن الشعر، عن فكرة الشعر، عن لماذاته الهائلة وطرُقه الأشد هولاً”. سهرة عباسية ”لم يكن الكتاب الأول، بل كان اختياري الواعي ليكون الديوان الأول المطبوع لي، لأنه تصعيد لمشوار حرث لغة شغلتني وشغلتها في نصوص سابقة. وبعيداً عن هذا الكلام الذي يشبه الادعاء، أحسبني لو كنت أملك أن أطبع كتاباً قبل السهرة، كنت فعلت في عام الألفين على أكثر تقدير، ولستُ متأكداً إن كان حسناً أني لم أفعل“.
متى عرفت نفسك شاعراً؟
“لم أعرف نفسي حتى الآن، لكن العام 1999 كان مفصلياً في هذا المشوار، ومازلت أولد، وما زلت أتكون. ”
لماذا الشعر، ولماذا اللغة؟
سؤال صعب، دائم وملح. ماذا يُقال في دردشة سريعة عن لماذا الشعر؟ لا أعرف، ربما لنعي أكثر، لنصِلَ أبعد. فلنفترض أنه لتفتيح أسئلة الأقاصي العنيدة البعيدة. الشِعر هو قاع كل شيء وسطوحه، في اليومي والعادي والأسطوري، لكن الشعر في شكله اللغوي شأنٌ آخر، ولهذا أصدقك الكلام: لا تشغلني اللماذا، بل تدور بي الكيف دوراناً عنيفاً. أما اللغة فغاية الغايات وسبيل السُبُل. لا يمكن أن يتباهى شاعرٌ بموهبته أكثر مما يتباهى بلغته. ولهذا أختلف مع وجهات نظرٍ كثيرة تتحسس من دلال البلاغة مثلاً، لكنني أتفهمها.
هل للقصيدة الطويلة مكان في زمننا؟
لكل شكلٍ شعري مكان في زماننا، لدي قصيدتان هما ”ماجية لأحمد الكوفي قبل أن يخطفه الرمل ”و”تترك نقش خاتمها كي يدل عليها“، أزعم أنهما كانتا تعريفي في وَسَطي القريب بالرغم من طولهما النسبي. القصيدة الطويلة الممتدة مرهقة، ولهذا مطولاتي قصائد داخل القصيدة، نصوص مفتوحة تتحاور مقاطعها وشذراتها في مساحة واحدة. خذ مقطعاً إن شئت، كما تأخذ مجلداً من كتاب بمجلدات. المعول على هندسة النص، على بنائه، المطولات التي لا بناء لها، لا صلاحية لها.
زيارة لزمن غابر
”سهرة عباسية ”2009، ديوانك الشعري الأول ويدور في أجواء العباسيين ودولتهم، لماذا هذا الاختيار، وهل كان لدراستك للتاريخ اثر في ذلك؟
“وجدتُ نفسي أكتبُ نصوصاً عن العباسيين، فرغبت في زيارتهم لأعرفهم أكثر، وكانت المصادفة أن غزو العراق 2003.. كان وشيكاً، فمشيتُ أكثر. كانت زيارةً شِعريةً لزمنٍ ليس غابراً تماماً كما كنتُ أظن. هل هي حديثٌ عن العباسيين؟ لا ونعم. كنت أرى الأميركيين يُجربون، ورأيت أن العباسيين أيضاً دشنوا مشروعهم بمسودة، بسواد الرايات، بفوضى، واكتشفتُ أن كل فكرة تدخل التاريخ بمسودة هي حُكماً فكرة زائلة، لأن المسودة تجريب. ووجدتني أبدأ الكتاب بالرايات السود لأبي مسلم الخراساني، وانتهى بأحبار ياقوت المستعصمي ورقاعه التي هي نقيض السقوط، سقوط بغداد 1258م. أما دراسة التاريخ فخبرةٌ مضافة ليس إلا. ثمَ ما التاريخُ في سهرة عباسية؟ التاريخ هو المنظور لكنه ليس اللوحة”.
”الخط العربي كان حاضراً في ”سهرة عباسية“، كيف تشرح هذا؟
”فنون الخط العربي من متع الروح العظمى لدي، أقيس البناء في قصيدتي كما يقيس الخطاط نِسَب ما يخط. الزمن العباسي مشبع بالجماليات، وابن مقلة أحدها وابن البواب أحدها. المغول يغزون والعباسيون في انهياراتهم العديدة، في حين يواصل المستعصمي الذي شهد السقوط 1258م ممارساته لترسيخ الميزان على الكاغد، كأنما ما يسقط في القصر من سوء تدبير، يُسنده ما ينهض على الرقعة من جلال. الفنون الحارسة لكلمة الإنسان الحقيقية والباقية هي تشريع سماوات جديدة تحفظ الأسئلة من أن تذوب، الأسئلة التي من شأنها تحريض الركض على المُضي”.
وماذا عن ”أدراج“؟
”أدراج، الغُرفات السبع من الفلَك إلى التي هي لك“. أدراج في التباس المفردة على الدلالات، ذلك هو الكتاب الثاني بعد السهرة، تخففت فيه من ثِقل التاريخ إلا لماماً، مررت فيه أشياء عادية أحبها، نصوصٌ ترابية واقعية. تذكرين تسونامي 2004؟ كان إحدى هواجسي في الكتاب، وكتبت عنه. تسونامي ومقامة قطيفية وحكايات حب. هل كان علي بعد زيارتي للعباسيين في أقصى التاريخ أن أهبط إلى الأرض”.
نص قابل للحركة
تكتب القصيدة العمودية والحرة والنثرية، أين تجد نفسك أكثر؟
”الموسيقى الشعرية ركن آخر من أركان عملي، تدور بي حيثما أدور، وبالطبع أترك لمن يقرأ أن يفند ويقرر. الفكرة تختار ثوبها، العصَب، الروح، المزاج، آنئذٍ، هو ما يقرر إلى أي الجهات أمضي، ما زلت أناكف الخليل بن أحمد حتى في تفاعيله لهوسي بابتداع أو اكتشاف ما تحمله الإيقاعات من احتمالات. أين أجد نفسي؟ أجدها في النص الذي أكتبه وأقتنع أنه قابل للحركة دوني، وعلى أي صعيد. لأنني ذات الشخص، حيث يطرب، وحيث يستريح، وحيث يُحب، وحيث يغني، وحيث يتأمل”.
اصدرت خلال شهر واحد ”مكعب روبيك خاص بأمجد المحسن ”و”حضرة ذوات الأكمام“، لماذا اصداران في وقت واحد؟
“لم تكن نيتي، وإن أعجبني ذلك، كان على المكعب أن يطبع في 2011، ولعللٍ كثيرة تتعلق بظروف النشر، تأجل حتى صدر مع ”حضرة ذوات الأكمام ”في توقيت قريب، بلا قصد، ولناشرين مختلفين”.
لماذا“مكعب روبيك”؟
هو كتابٌ نثري فيه اشتغال على تيماتٍ عدة، في اللغة والسيرة والحب. مكعب الألوان المنسوب لأرنو روبيك يطلب اكتمال ذاته، وشخصيا أرى لذتي في مواصلة الْتفات المكعب.
المكعب المبعثر الألوان، الطالب اكتماله، الحياة بكل ألوانها، بالرديء فيها والممتاز، النثر حين يُشعرن السيرة، والشعر حين يُنثرِن الحكاية. المكعب في الحَيرة وفي اللعب وفي الضبط وفي الدوران. المكعب ابن السنوات الأولى من الألفية، ليس هو المكعب الآخر الذي أحمله الآن، إلا أن الأول والذي أصبح كتاباً هو باب من أبوابي البعيدة، وقد تكون مفاتيح للغتي عند قارئها في نصوصي وكتبي الأخرى. أما الآخر ”حضرةُ ذوات الأكمام ”فهو كتاب عن قُرى وأماكن قطيفية وأحسائية، في نصوص وشخصيات ونساء، في عناوين المكان والمرأة والتراب وامتداد النفَس على تضاريس هذا الساحل. عملت على أن تكتنز قصائد الديوان في لغتها مستويات عدة، تكون في متناول القارئ العادي، دون أن تخذل جدية القارئ الآخر الذي يُعجبه الحفْر في النصوص، هذه الجدلية الفنية هي مختبري الخاص الذي أدعيه. ضمنته نصوصاً عن أحداث غابرة وأخرى قريبة متعلقة بهذا المكان. أردت أن أُغني، أن أغنج هوياتي الكثيرة بطريقتي”.
لمن تهدي نص ”سأعترف لكل من أشهر سيفه أنه المنتصر”؟
”هل يصلح هدية؟، إذاً فليكن لكل ما هو كَدِر، ساحب، سلطوي، لئيم، مُخاتل، ساذج. من يدشنك خصماً، من يحاول تهديد حيزك، أن تلتفت، أن تعترف به، من يرى في أنه قادر، يملِك، يستطيع، سيفعل، من لا يعرفك حقاً ولن يعرف”.
ما العلاقة ما بين معلقة امرؤ القيس وقصيدة“شيءٌ غير شكل، وفُكاهة رائد جلاكسي؟
”قصيدتي تلك شيءٌ من جنون فضاءات الشبكة الإلكترونية، نص عفوي للاقتراب مما يسمى بالقصيدة التفاعلية أو الرقمية التي ما زلت أحمل أسئلة كبرى عنها ليس في اتجاهها بالضرورة. التحدي في هذا النص بدائي من حيث التنفيذ، لكنه عالٍ جداً وطَموح. أردتُ قصيدة تحمل روابط، أردت قصيدة موشومة بالأزرار. تأخذ القارئ إلى مسالك أخرى هي في النص وخارجه، تجلس في النص وتفيض عنه. كانت“قفا نبك”امرئ القيس حاضرة بصفتها مفتتحاً لمساحة الكائن الشعري اللغوي الخالص من كل شيء سوى اللغة. وطرحت السؤال: ماذا لو كان الضحك هو مَطلعُنا الجديد، كما كان البكاءُ مطلع ألفي سنة من الشعر؟ لكن الأصل في هذا النص أنه مُهدىً للثبيتي، الشاعر الكبير. كيف يمكنك أن تحيي شاعراً كبيراً؟ بتقديم الجديد جداً أو ما تفترضه كذلك، بالكتابة كما لم يكتب هو. بالامتنان له أنه وشعراء كبار آخرين، قد شحذوا فيك ما يمكنك من القفز أبعد”.
لا خلا ولا عدم
تتحدث عن الرازقي كثيراً في ”حضرة ذوات الأكمام“، ما دلالة ذلك؟
”أحلم بقصيدة تشبه الرازقي، رقيقة وخلية البال، كنت سأسمي الكتاب بالرازقي لولا أن ثمة أشياء أخرى. الرازقي رافقني منذ البدايات الأولى، أجدني منحازاً. قلت له ”لا خلا ولا عدَمٌ أيها الرازقي المفدى“، هو في قاموسنا وأيامنا، هو واحدٌ من الإشارات البسيطة لأعراس الناس وامتثال القلب لما هو نبيلٌ في هذا التراب وأهله وناسه. ليت أيامنا كلها رازقي ومشموم”.
البحر في ”أدراج ”غير البحر في ”حضرة ذوات الأكمام“، ماذا تقول عن هذا؟
”في أدراج، لم أكن أكتب عن بحري، إنما عن البحر، عن هذا السلطان الأزلي، الكبير والمهيب، عن تسونامي، عن فناء حيوات، عن“موبي ديك”وطوفان نوح. في حضرة ذوات الأكمام، كان بحري هو قصيدتي. ساحل هذا الخليج وغبته ونواخذ سفائنه وغواصوه”.
أين هم جمهور الشعر اليوم؟
”موجودون وحاضرون، ومتشوقون لقراءة الشِعر وروايته والتغني به، ينتظرون وأنا واحد منهم على كل حال، قصائد الشعراء بفارغ الانتظار. فقط على القصيدة أن تكون قصيدة. القارئ موجود ومستعد للتلقي. ما قصيدتك؟ هذا هو المهم، تعلمين أن الجمهور تعبير ملتبس واسع، أنت لن تقرأ قصيدة ذات طابع مركب على مستمعٍ يتوقع البسيط. ولن تقرأ قصيدة خيطية لا قوافي فيها على متلق لا يرغب في سماع قصيدة غير عمودية. فقط، دله على مفاتيحك وثق أنه سيذهب معك إلى حيث تريد”.
ما مدى انفتاحك على ارث ومنتوج الشعر الغربي؟
”أقرأُ، وأنوي أن أقرأ أكثر وأتعلم. أحرص على الاطلاع على ما يصل يديَ من منجز شعري غربي أو شرقي. وبوصلتي دائماً هي العربية، منها خُلقت وفيها أعود. هل يمكن أن أهمس بسر قد لا يهم أحداً: لي نص أشتجر فيه مع ”ويتمان”أرجو أن يرى النور قريباً. الانفتاح على ما هو آخر إبداعي يخفف من نسبة وهم القُدرة التي يحملها المرء. في العالم تجارب معاصرة متجاوزة جداً، لكننا نكتشف أن الكلاسيكيات أيضاً غير مقروءة عندنا بشكلٍ جيد”.
ماذا عن الانتشار، عن الشعبية، عن الشهرة؟
”أولاً، على الشِعر ألا يبحث عن التصفيق، عن الشعبوية، ففي هذا مقتله، عليه أن يكون خارج الضجيج، عليه أن يعرف أن الأسواق الصاخبة لا تصلح لإنشاد قصيدة هشة من تأمل. لا أحب التنظير كثيراً، لاعتقادي أن الامتحان الحقيقي هو القصيدة لا الدعاوى. نعم، أنت تكتب ليقرأك الناس وإلا لماذا تطبع الكتب؟ لكن أن تطرح على الناس مختبرَك، لا أن يجلسوا على أصابعك. قُراءك هم من يثقون باقتراحك الشعري، وسيواصلون معك لأنهم يدركون جديتك. كل شاعر يشبه قارئه، هو. طيب، ما المطلوب؟ المطلوب أن أكتب دون أن أقع في فخ من ينتظر شيئاً مني. حين يُصفق لك الكل عليك أن تعيد النظر، عليك أن تنتبه. حين تمسك نفسك وأنت تكتب وفي ذهنك أحد، عليك أن تلغي القصيدة فوراً. حينما لا تكتفي بنشوة كتابتك، منتظراً اعتمادها، فأنت تقطع أن ما كتبته يوافق ما اعتاده الناس. نصٌ تهجس أنه جميل ثمَ لا يربكك أمام ما تعرف وما تريد وما اعتدت عليه من إيقاعات وتفاعيل وأفكار وطرائق كلام، هو نص خارج جدول الأعمال. اكتب كما تحب، سيأتيك ما تحب. والمتفق عليه أولاً وآخراً أن لا غنى للشاعر عن القارئ. ”
ماذا بعد ”المكعب ”و”حضرة ذوات الأكمام“؟
”سأتركهما يمشيان بين الناس، ريثما أفرغُ حقائبي من نثرٍ عالقٍ بها”.