هيّبة الموت.. قصة حقيقية!
يمارس حياته الطبيعية ككل البشر، متزوج ولديه أولاد ويعمل بوظيفة محترمة. إنه كريم ومحب للخير، وله بصمات جميلة على من حوله، لكن له سلبيات كغيره، فهو إنسان! إنه سريع الغضب على أتفه الأسباب، وهذا باعترافه، فهو يسافر كل عام مع أصحابه المقربين، ويمارس اللهو والعلاقات الحرام حتى يكسر الحجر الذي برأسه، وإذا رجع للوطن، يعود لدوامة برنامجه اليومي من عمل وبيت وعلاقات وإصلاح سيارة وغير ذلك. أما بخصوص الجانب الإنساني، فإنه يتبرع بالدم كلما سنحت له الفرصة، وبمعدل ثلاث مرات بالسنة حسب قوله، وهكذا هي حياته، وهكذا هو متصالح مع نفسه ومع المجتمع.
تنهد من قلبه وقال: كانت هي آخر زيارة لي لبنك الدم المركزي، وكعادتي أبتسم للموظفين عند دخولي صالة الاستقبال، لكوني تبرعت عدة مرات، فربما يتذكرون أسمي، فأنا مفخرة للوطن وللإنسانية. بعد أن فرغ الأخصائي من أخذ عينة من دمي، دخل عليّ غرفة الانتظار وقاطع تفكيري، إذ كنت في بحبوحة من الخطط، فكنت أفكر في الحصول على ميدالية الملك بعد تسجيل عشرين تبرع، فقال الممرض: ”رجاء أتبعني“ فتبعته، ودخلت على دكتور مواطن وبجانبه آخر عربي، فقال: أتمنى أن لا تنزعج من كلامي، وهذا يحصل أحياناً، فأنت شجاع بما فيه الكفاية، لذا وددت أخبارك إنك الأن لا تستطيع التبرع، والسبب قراءة الكمبيوتر! فقد ظهرت النتيجة إيجابية لمرض نقص المناعة المكتسبة!.
وقع قلبه على الأرض وهو يخفق بقوة، فلقد تخيل له الدكتور كعزرائيل ملك الموت، فأصبحت الدنيا سوداء، والأصوات قد اختفت، والعالم قد توقف في حالة تجمد تحت الصفر، فلم يعد يسمع شيئاً مما يقوله الدكتور، دموعة تنهمر دون إرادته، وأعاد السؤال بصوت ضعيف ومنكسر " ماذا قلت دكتور؟ مرض المناعة! تقصد الإيدز! فقال الدكتور نعم، لكن لا تخاف، ربما القراءة خطأ.. في الحين، دخل أخصائي اجتماعي، وجلس بجانبه، ووضع يده على كتفه، وقال: عزيزي، ربما الكمبيوتر مخطئ، وهذا يحصل، والنظام يقول، يجب أن تعود لنا بعد شهر لنأخذ عينة منك، وهكذا سنتأكد، وأنت قوي ومؤمن بالله.
قال: لا أعرف كيف أصف شعوري، وكيف وصلت للسيارة، آه.. آه! لا أستطيع وصف حالتي ونفسيتي، أشياء كثيرة أود أن أخبرك بها، ولن تستطيع أن تعبر ما بقلبي إلا بالتجربة، فسأتكلم بصراحة وبأريحية، لقد نسيت كل شيء بأول لحظات سماعي الخبر، فنسيت أسمي وأمي وأبي وديني ومذهبي وبأي أرض أنا، أستغفر الله، أستغفر الله.. نسيت أني أنسان، فبكى وبكى!، فتنهد وقال: كان شهراً كالسنة أو العشر سنوات، فالدقائق لا تتحرك، وكأن الحياة توقفت، والساعة واقفة، يا ناس تخيلوا، فأنا مصاب بالإيدز، نعم! نعم!، إنها بسبب العلاقات الحرام التي مارستها بالخارج، فتذكرت كل فتاة، وتذكرت كل همسة وكلمة، وتذكرت كل قرش دفعته بالحرام، وكأن الشياطين قد اجتمعت ضدي، فكيف أخبركم ماذا حل بي! كيف؟
تغير صاحبنا، ونقص وزنه بشكل ملحوظ، إنه يتعبد الله كثيرا ويقوم الليل والناس نيام، فعلاقته مع الله الأن مختلفة، وكأنه من المتصوفين والزاهدين، يتكلم بهدوء بحضرة أياً كان، وترك الصراخ والعصبية، ولا يشعر بما يهذي ويقول أغلب الأوقات، قوله نعم باستمرار ولا يجادل، وإذا وقف عند الإشارة لايعرف وجهته، ويعطي المتشردين بسخاء، فكل الدنيا في نظره أكسسوارات، والحياة قد لعنته وطردته، وإن الدنيا انتهت وأنتهى دوره، ولاحاجة أن يستمتع أو يعيش يومه، فقد تحطم كلياً، وتحطمت معه الآمال والخطط، كشراء الفيلا التي خطط لها مع البنك، فما زالت الأوراق ناقصة، وموظف البنك ينتظره، وتحطمت جمعية الشراكة التي مع زملائه بالعمل، وتحطم كل شيء في حياته، وحتى اللقاءات الحميمية مع زوجته، فقط أمتنع عنها، وهذا ترك شكاً وريبة لديها، فهو دائماً مبتعد عنها وقت النوم، ويتحجج بألف حجة، وهي إلي الأن لا تعرف الحقيقة، ولماذا تغير زوجها البتة.
أنقضى الشهر، ورجع لبنك الدم، فأخذوا عينة، فدخل عليه الأخصائي مبتسماً " ألم أخبرك! لقد كان خطأ بالقراءة، الحمد لله النتيجة سلبية، ونرجو أن تعود الشهر القادم للتأكد، فعادت الروح في جسده، وومض نور من الأمل، وكأن الحياة أشرقت من جديد، فأبتسم ابتسامة صفراء، ومسح دموعة وخرج، وانقضى الشهر الثاني كسابقه، لكن أقل ألماً، فعاد للفحص الثالث والأخير، ودخل عليه المختص، وهو يتراقص، فأحتضنه وقال: الحمد لله سلبي، الم أقل لك، فسقط بطل قصتنا على الأرض وهو يبكي كالطفل، ودون استحياء، وهو ينظر للأخصائي بخليط من دموع وابتسامات، ومردداً: لك الحمد يارب! لك الحمد يارب!، فقبل رأس الممرض، وقبل الطاولة وقبل الجدار، وقبل الأوراق، وقبل كل ماهو أمامه، فدخل الدكتور، فأحتضنه وقبل رأسه ويديه، والدكتور يبتسم، فقال له: الف مبروك، لكن النظام لا يسمح لك بالتبرع مستقبلاً هنا، حتى لو ظهرت النتيجة سلبية، ويمكنك أن تتبرع بمكان آخر.
خرج سعيداً، وكأنه خلق من جديد، نعم خلق من جديد بتلك اللحظات، وقد أعطاه الله فرصة لينعم بالحياة، فركب سيارته، ويكرر تقبيل نفسه مبتسماً بالمرآة التي أمامه، فرجع كما كان، أباُ وموظفاً، عاد يمارس هوايته مع أصدقائه، عاد في نقاشه وضحكه ومزحه وصراخه وزعله، فشكر الله بكل صلاة.
مع مرور الزمن، ومع النسيان، وخطوة تليها خطوة، رجعت حليمة على عادتها القديمة، وأنقضت سنة، وأغمض عين وفتح أخرى، وسافر مع أصحابه، ومارس العلاقات المحرمة، وسهر الليالي المشبوهة، وكأن شيئاً لم يحدث، وكأن الإيدز كان حكاية قد قرأها من صحيفة أو قصة عابرة قالها أحدهم، ومازال على ذلك حتى الأن، قال تعالى، بسم الله الرحمن الرحيم: ﴿وَإِذَا مَسَّ ٱلإِنسَانَ ٱلضُّرُّ دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِداً أَوْ قَآئِماً فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَآ إِلَىٰ ضُرٍّ مَّسَّهُ.﴾ يونس: 12.
لقد تنفس وتنهد بطل القصة رائحة الموت، وتذوق طعمه، وعرف هيبته، وخاف أن يلقي حتفه مع لعنة من الناس والتاريخ، فالكل سيشك بأمره، وكيف مات بمرض الإيدز، لكن بعد أن أعطى فرصة أخرى، عاد إلي طريقه القديم، وهكذا هو الإنسان! يعود لعاداته السيئة بالغفلة والتناسي، والعبرة لمن يعتبر ولعقله مدخر.