حفلات التخرج في المرحلة الثانوية «بين مؤيد ومعارض»
بدايةً نبارك لأبنائنا وبناتنا طلاب وطالبات الصف الثالث الثانوي قرب تخرجهم وانتقالهم إن شاء الله إلى المرحلة الجامعية، ونشد على أيديهم وعلى أيدي معلميهم ومعلماتهم، ونقدم الشكر الجزيل لكل من ساهم بجهده وماله في إقامة حفلات التخرج التي أعطت هذه المناسبة رونقًا خاصًا وألبستها لباس البهجة والسرور. فهذه الجهود بلا شك جهود مضنية أظهرت رغبة صادقة وسعيًا حثيثًا لدى المدارس في تقديم أفضل الخدمات بأفضل المستويات لطلابنا وطالباتنا ورسم الفرحة على وجوههم.
وحيث أننا نعيش هذه الأيام موسم حفلات التخرج فقد خطر لي أن أتعرض بشكل مختصر إلى بعض وجهات النظر المتعلقة بها والتي تُطرح للنقاش بين حين وآخر وتزداد حدة في مثل هذه الأيام. فهناك من يؤيدها ويتحمس لها باعتبارها إحدى ليال العمر المميزة، وحقًا من حقوق الطلاب والطالبات يخلّدون فيها ذكرى جميلة لهم، ويودعون مرحلة مهمة من مراحل حياتهم بمشاعرهم ودموعهم ويتلقون التهاني والتبريكات من أحبائهم ومعلميهم، وبناء على ذلك فمهما ازدادت الجهود والتكاليف ستكون في محلها الصحيح ولا ضير في ذلك أبدًا.
وهناك من يعترض عليها بحجة أن المناسبة لا تستحق كل هذا الاهتمام الكبير وهذه الجهود المضنية والتكاليف الباهظة التي تزداد سنة بعد سنة، وتسببت بحسب هذا الرأي في أن تتجه هذه الحفلات ونتجه نحن معها نحو ساحة البهرجة والاستعراض والإسراف حتى فاقت حفلات التخرج التي تقيمها الجامعات وأصبحت عبئًا على كثير من الآباء. وبحسب المعلومات المتداولة فإن تكاليف بعض حفلات التخرج التي أقيمت العام الماضي قد قدرت بأكثر من سبعين ألف ريال. هذا غير الجهود المضنية والأوقات الطويلة التي يبذلها المعلمون والطلاب استعدادًا لها. والسير في هذا الطريق سيؤدي حتمًا إلى نفس مشكلة المبالغات التي يعاني منها المجتمع في حفلات الزواج. وهذا يعني أن حفلات التخرج أصبحت تؤدي دورًا يتنافى مع دورها التربوي. وهي فوق هذا كله ظاهرة مستحدثة ودخيلة علينا ولم نعرفها إلا في السنوات الأخيرة.
وقبل الانتقال إلى الرأي الثالث يجب القول للحق والإنصاف والموضوعية أن المبالغات التي تم ذكرها في وجهة النظر السابقة لا أراها موجودة في جميع المدارس وتعميمها أمر غير عادل. فهناك ولله الحمد بعض المدارس لا تزال بعيدة عن هذه المبالغات.
نأتي الآن إلى الرأي الثالث وهو الرأي الذي يرى أن الأمر بين أمرين. ويتلخص في التأكيد على صواب فكرة إقامة الحفلات وأرجحيتها لما لها من أثر جميل وتربوي على الطلاب والطالبات وعلى ذويهم وعلى ضرورة الاستمرار في إقامتها ودعمها ولكن في نفس الوقت يجب إبعادها عن المبالغات غير المبررة. وأما كونها ظاهرة مستحدثة فهذا لا يعيبها ولا يقلل من شأنها ولا يمكن رفض الشيء لمجرد أنه مستحدث وإلا بقينا بلا تقدم ولا تطور.
وقد لمست أن هذا الرأي هو الأرجح عند الكثير ممن أبدوا رأيهم في هذا الموضوع لكونه بحسب رأيهم متوازنًا ويوفق بين الرأيين ويجمع بين حسناتهما. ومن وجهة نظري المتواضعة فإني أتفق تمامًا مع أصحاب هذا الرأي.
فإذا قبلنا بهذا الرأي وأردنا الأخذ به تحقيقًا للتوازن الذي يحتويه ويرتكز عليه يتعين علينا قبل كل شيء أن نلزم أنفسنا بعدم الاستسلام لأي سبب أو هدف يجرنا تدريجيًا من حيث نشعر أو لا نشعر نحو المبالغات التي يشتكي منها البعض. وهذه الأمور وإن كانت غير معلنة كأهداف فإنها «إن وجدت» سيراها الجميع بكل وضوح حيث لا يمكن إخفاؤها وقد تطغى على الهدف الأساسي الذي من أجله تقام هذه الحفلات وهو إتاحة الفرصة للطلاب ليعيشوا فرحة تخرجهم في ذكرى جميلة يتذكرونها طوال حياتهم بمشاركة أهاليهم وأحبائهم. مع إدراكنا التام بأن حب الوصول للأفضل وإثبات القدرات ليس هدفا معيبًا ولا نقصًا ولا خطأ بل هو أمر إيجابي يدفعنا لتطوير أنفسنا ومستوى أدائنا وإنتاجنا، ولكن يجب أن يتم يدون الوقوع في المبالغات والإسراف وألا نحمل أنفسنا أكبر من طاقتنا.
إذن لابد أن نحدد منهجنا وخياراتنا في تنظيم هذه الحفلات ونسأل أنفسنا: هل هدفنا تقديم أفضل المستويات بأي ثمن ودون أي اعتبار لأي شيء آخر؟ أم نقتصر على تقديم أفضل ما يمكن في حدود إمكانيات وأهداف محددة دون الانجرار وراء أي حماس أو أي هدف يدفعنا للمبالغات؟
إذا اتفقنا على أن الخيار الثاني هو الخيار الصحيح فإننا نحتاج كي نترجمه على الواقع إلى جعل حفلاتنا منتجًا ذاتيًا للمدرسة «قدر الإمكان». فلا داعي لأن ننفق مبالغ كبيرة للاستعانة بفرق موسيقية محترفة وبمحترفين في التصوير والمونتاج والصوت والتسجيل بالإضافة إلى ما نسمعه عن بعض المدارس التي تتفق مع أحد الشعراء ليقوم بكتابة أغان أو أناشيد متضمنة اسم المدرسة واسم المدير أو المديرة، ثم يقدمونها إلى أحد الملحنين ثم إلى أحد المنشدين والتكاليف لا تنتهي، هذا إذا استثنينا تكاليف استئجار الصالة واعتبرناها مجانًا أو اعتبرنا المدرسة هي مكان الحفل وقد لا يكون الأمر كذلك.
وحينما أقول أن هذه الحفلات يجب أن تكون منتجًا ذاتيًا للمدرسة فإنني على يقين تام بأنها لن تكون بنفس المستوى الذي سوف تكون عليه لو اعتمدنا في إقامتها على جهات محترفة، ولكن مع ذلك يبقى الاعتماد على الجهود الذاتية للمدرسة أفضل بكثير لأنه سيكون إبداعًا يحسب لإدارة ومعلمي وطلاب المدرسة.
ولتقريب الصورة دعونا نقارن بين وسيلة تعليمية أو لوحة فنية قام بعملها أحد الطلاب، وأخرى قام بها أحد المحترفين في المكتبات ومحلات الخط والرسم مقابل مبلغ من المال. فالأولى بكل تأكيد لن ترقى لمستوى الثانية ولكن أين سيكون الإبداع وأيهما أحق بالتقدير والشكر؟ أين الإبداع إذا اعتمدنا على دفع أغلى التكاليف للحصول على أعلى المستويات وأفخم النتائج؟
قد يقول قائل أن معظم التكاليف عند المدارس التي تتهم بالمبالغة في حفلاتها مدفوعة من أحد أو بعض رجال الأعمال كمتعهدين أو رعاة لهذه الحفلات وهذا يعني عدم تحميل الطلاب وأولياء أمورهم أي أعباء. هذا القول وإن بدا منطقيا إلا أنه لا يقدم حلا للمشكلة. لأن أي مدرسة إذا استطاعت الحصول على راع لحفلها في إحدى السنوات فلا يعني أنها سوف تضمن الحصول عليه في كل سنة. بالإضافة إلى أن المبالغات التي ننتقدها لا تقتصر على التكاليف المالية فقط بل إنها تشمل مقدار الجهد والوقت المبذولين من قبل المعلمين والطلاب المشاركين في الإعداد لهذه الحفلات وهم غالبا طلاب الصف الثالث وهم أحوج ما يكونوا لأوقاتهم وطاقاتهم لاستغلالها في مراجعة دروسهم. لذلك فإن الاعتماد على الرعاة كما قلنا لا يحل المسألة من جذورها. والأولى أن تبذل المدرسة جهودها في جذب رجال الأعمال وتشجيعهم على تقديم ما يخدم الطلاب طوال العام وليس لأحياء حفل التخرج.
أحد الإخوة قدم اقتراحًا يبدو غريبًا نوعًا ما ولا أظنه يلقى قبولا عند البعض ولكنه يحمل رأيًا من حقه أن يرى النور. هذا الاقتراح يتلخص في ضرورة التوقف عن دعوة أي مسؤول لحضور حفلات التخرج سواء من التربية والتعليم أو من أي جهة أخرى وذلك لتجنيب مديري المدارس المشاعر التي تدفعهم نحو المبالغات والتي ذكرناها قبل قليل. ويمكننا أن نتساءل هنا ماذا لو لم تتم دعوة أي مسؤول طالما لن يشعر الطلاب بأي نقص في حالة عدم وجودهم؟ قد يقول قائل أن دعوة المسؤولين أصبح برتوكولًا متعارفًا لا يمكن تجاهله. وللرد على هذا القول نقول أن هذا البرتوكول ليس ضمن الأنظمة المدرسية ونحن الذين أوجدناه وبإمكاننا إلغاؤه. نعم قد يكون إلغاؤه في البداية أمرًا مستغربًا ولكن مع التكرار سيتحول إلى أمر عادي.
ويؤكد أصحاب هذا الرأي على أن حضور المسؤولين في حد ذاته ليس خطأ ولا عيبًا، فالمسئولون لهم احترامهم وتقديرهم ومن المفترض أن لا ضير أبدًا في حضورهم، وإنما المشكلة تقع في الشعور الذي ينتاب بعض المديرين والقائمين على الحفلات ويدفعهم نحو المبالغات التي لا نريدها.
ويرى البعض أيضًا أن من الأمور التي تسبب حالة القلق بث هذه الحفلات عبر مواقع التواصل الاجتماعي مما يجعل القائمين عليها ينشغلون بالتعرف على آراء الناس وما هي الأصداء التي حققتها حفلاتهم.
في النهاية فأنا على يقين بأن الخروج بوجهة نظر محددة في هذا الموضوع لا يبدو أمرًا سهلا والمسألة تحتاج إلى دراسة متأنية وحوارًا صادقًا ولكن ما نجزم به هو أهمية هذه الحفلات وفي نفس الوقت أهمية البعد عن المبالغات وعن أسبابها.