فتش عن الوعي
كثير منا يردد المقولة المشهورة للكاتب المسرحي الفرنسي ألكسندر دوماس «1802 - 1870م»: فتش عن المرأة؛ التي قصد منها أنه لا تخلو قضية من القضايا من دور فاعل لامرأة ما، لذا فإنه ينبغي لحل لغز أي قضية البحث عن تلك المرأة المختبئة فيها. لا شك أن هذه المقولة تنطوي على كثير من التجني على المرأة، وعلى ثقافة تعصبية ضدها. ومع كل ما فيها من سوء، إلا أنني أجد من المناسب جدا أن أعيد صياغتها لأطلب التفتيش هذه المرة عن «مذكَّر» وليس عن «مؤنث».
أعلم أن الإحالة إلى سبب أحادي لا تعكس الحقيقة في أغلب الأحيان، كما إنها نوع من التبسيط الساذج للظواهر المعقدة، خصوصا تلك التي يكون الإنسان عنصرا من عناصر معادلتها. فالسلوك الإنساني بطبيعته عصيٌّ على التفسير، ويحتاج إلى عملية استقراء مجهدة ومكلفة، أقصى ما يستفاد من نتائجها احتمالي لا يرقى لليقين. فهو لا يشبه الظواهر الطبيعية التي يمكن إخضاعها للتجربة تلو التجربة، ومن ثم نستطيع الاطمئنان إلى النتائج من خلال الاستقراء الناقص الذي بيَّن أسسه، وشيد مبانيه الشهيد السيد محمد باقر الصدر في كتابه الفلسفي الرائع «الأسس المنطقية للاستقراء»، والذي لم ينل حظه الوافي من النشر والترويج عالميا. ولذلك أسبابه التي تحتاج لاستقراء أيضا ليس هذا محلها، غير أن مقولة ألكسندر دوماس لن تصدق هنا بالتأكيد.
أقول: مع علمي بما قد تسببه الإحالة لسبب وحيد من تضليل يجعل المتلقي منصرفا عن التفكير خارج إطار السبب المعطى؛ فإني أميل فيما أكتب عنه اليوم إلى الحديث عن سبب واحد، لا أعتبره الوحيد ولكنه - حسب ظني - الأوفر حظا من غيره من الأسباب للظاهرة التي أتعرض لها. فبعد الانتكاسة السريعة للربيع العربي الذي عُلقت عليه الآمال العريضة في إحداث النقلة النوعية المنتظرة في عالمنا العربي نحو الحرية والعدالة والتعددية والديمقراطية والمواطنة والمشاركة والشفافية والتنمية وغيرها من القيم؛ كثرت التساؤلات عن أسباب الانتكاسة، وأعيد طرح سؤال النهضة من جديد. فقد تبين لكل مراقب أنه بالرغم من القوة التعبوية الهائلة لشعار «الشعب يريد...» أن الشعب في واقع الأمر لا يدري ما يريد حقا. وهنا تكمن المأساة، فتصدق المقولة: فتش عن الوعي. ونقصد به الوعي السياسي. الجميع كان ينشد الحرية والعدالة والتنمية بمختلف مجالاتها، إلا أنهم في الغالب لا يعرفون عن أي حرية أو عدالة أو تنمية يتحدثون. إذ لم يقرأ أكثرهم شيئا عن هذه القيم والمناقشات المستفيضة حولها، وبالتالي فإن كل واحد كان ينشد هدفا مختلفا له صورة في ذهنه لا تشبهها أخرى في أذهان الآخرين. ما يجمع الأشتات كان سحر الكلمات والشعارات دون مضمونها الحقيقي. إنه الجهل في صورة العلم، والذي عن طريقه يستطيع الاستبداد التمويه على الجماهير وإعادة إنتاج نفسه من جديد.
عندما كتب شكيب أرسلان كتابه الشهير «لماذا تأخر المسلمون وتقدم غيرهم؟» ذكر ستة أسباب كان الجهل أولها، أما الخمسة البقية فكانت العلم الناقص، وفساد الأخلاق، والجبن والهلع، والجمود على القديم، وفقدهم كل الثقة في أنفسهم.
يمكننا أن نحيل على أسباب أخرى كغياب أو ضعف مؤسسات المجتمع المدني، وقوة مؤسسات الاستبداد وهيمنتها على وسائل إنتاج الرأي العام، وسيادة الخطاب العاطفي غير المؤنسن، وغير ذلك من الأسباب؛ لكن ستبقى مقولة «فتش عن الوعي» صادقة دائما.