البـقـر والحـمار!
على الطريق البري، لمحت شاحنة بها قطيع من البقر الضخام، وفي وسطها يقبع حمار صغير « جُحيّـش » وكل من يعبر بجانب الشاحنة لا يعيرها اهتماما، فاقتربت منها، وسلطت النظر، ثم اتخذت قراراً، أن أقلل من سرعة سيارتي، وبقيت أسير خلف القطيع وأنا في عمق التفكير، وزوجتي مستغربة من تصرفي، وتسأل ماذا حدث؟ لماذا تقود ببطء، فـقذفـتـني بالجنون عندما عرفت السبب، فبطل العجب، فأكدت لها أني أفكر في هؤلاء، وأنا إليهم أشير، فاستمريت في ملاحقتهم، حتى دخلت الشاحنة محطة بنزين، وأنا خلفها، فتوقفنا معاً، وبقيت أتأمل وأفكر وأدوّن النتائج، فسألت السائق: هل هكذا هم وأنت تسوق؟ هل يتعاركون ويتخاصمون؟ هل واجهت فوضى من قبل؟ وهو ينفي دائماً.
لقد أخذني عقلي إلي عدة التفاتات عم يجري هنا! فالهدوء والصمت والقناعة هي الطاغية في الموقف، والكل متكيـّـف مع الوضع، والغريب إن البقر فصيلة مختلفة عن الحمير كلياً، ولو ألقيت نظرة على الحمير البرية، لشككت بالأمر، لكن مايجري هنا مختلف البتة، وربما هو الطبيعي، وأنا الجاهل الذي لايعرف، وعقلي هو الغريب! ومع ذلك، فقد وصلت إلي نتيجة، وهي: أما إن البقر تعتقد إن الحمار قائدهم وعليهم احترامه، وعليهم التزام السكون والهدوء بوجوده، وهم متكيفون مع الوضع، ومقتنعون بهذا، وهكذا تستمر الحياة.. أو إن الحمار يعتقد أنه ينتمي لهؤلاء، وهو جزء لا يتجزأ منهم حتى وإن أختلف شكله وصوته، وقد تكيف مع الوضع هو أيضاً، وهو مقتنع بذلك، وكما يقال بالعامية « عايش مع العايشين »، وحتى وإن وقع صراخ هنا أو هناك، سيعود الأمر إلي طبيعته، ولا تسأل كثيراً.
أحياناً، نحن نحتاج أن نكون مثل البقر والحمار في طريقة تعاملاتنا مع من حولنا، وهو قانون اجتماعي قديم، وقد أسميته « التنازل للتوازن » فأما نكون مع البقر أو نأخذ موقع الحمار « بالتنازل » وهذا ينطبق على حياتنا اليومية مع الزوجة أو الأبناء أو الجيران أو الأقارب، أو مع رئيس العمل، وحتى أثناء التعامل مع الكهنوتيين والمسؤولين، وهذه نقطة مهمة وحساسة، ولهذه الفلسفة نصيب الأسد أثناء البحث بمحاضرتي « الذكاء الاجتماعي » فالذكاء الاجتماعي لا يوجب أستخدام العقل في كل الأوقات، فأحيانا، ومن العقل والرجاحة والذكاء أن لا تستخدم عقلك، وأن يبقى متجمداً أو مخدراً، ولو حدث العكس، ستحدث مشكلة وخلل بالتركيبة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية بالمجتمع، وخاصة إذا أقحمناه في بعض المواقف الغير مدروسة أو محمودة العواقب، والقصد، أن نوقف العقل من التكفير أو نلزمه الصمت أمام عقول « لا تعرف ماتريد، ولا تريد أن تعرف »، وهذا ضروري كي نعيش معهم، فأحياناً هو أبن لك، أو شريك بالعمل، أو صديق أو جار أو قريب، بحيث نعطل العقل ليرقى إلي مستوى البقر والحمير، وتستمر الحياة.
سيقول البعض، إنك تعرقل عقولنا وتعطلها، فكيف بنا نسير خلف القطيع دون تفكير وتدبير، الجواب أحبتي: بعض الناس لايريد إستخدام عقله، ومقتنع بما لديه وبما بين يديه، ويقول لك « هذا أنا وهكذا أنا » وهذا يراه معظمنا من حالات شخصية أمامنا تعيش معنا ونحن ملزمون بالعيش معهم، والتكيف والتفكير بطريقتهم، فأعلم أنهم يرون أنفسهم طبيعيون وهذا هو الصحيح، وأن قراراتهم صائبة، وفي أعلى القمة، فلا تعكر صفو حياتهم، وأقتنع بمجاورة عقولهم. ففي مثل هذه الحالات نضطر أن نتعايش معهم بقانون « البقر والحمار » ونتنازل ونجمد عقولنا، ولنبسطها أكثر بمثال: يذهب هدف بعضهم في الحياة إلي مستوى راتب بسيط ليشتري به فتات لمعدته وجوال، وقيمة إيجار شقة متواضعة وسيارة فقيرة أمام الباب، ويعيش بالسلف والدين منك ومن غيرك، وهو راض عن حياته حتى يشيخ ويهرم، ولن تستطيع أن تؤثر فيه حتى لو بدلت عقله، أو جلدت ظهره، وعايش مع العايشين، ويقول بقناعة « الحمد لله »، والمصيبة ان الفرص كانت متوفرة أمامه ببداية المشوار، وقد عاصر أخطاء غيره، وفي الأخير يقول: هكذا أنا!
أما النوع الآخر من البشر، والذي يعيش كإنسان، ويفكر كإنسان، ويتكلم كإنسان، وحتى علاقته مع الله، هي علاقة رب خالق مع عبده الإنسان، ويضحك ويبكي كإنسان، وهذا هو الطبيعي، وهو مريح لنفسه ولغيره، ولا تتعب بالعيش معه، ولن يرضي بالعيشة الضنكة، حتى وإن تخرج من بيت فقير، لأن طموحه وعقله تأبيان إلا أن ترقيا دون العلا والكمال، العلمي والأخلاقي والمادي، وقد تمثل بـ « من طلب العلا سهر الليالي »، لأنه إنسان ذو عقل.
عوداً على قطيع البقر والحمار، قالت زوجتي بعد أن أتهمتني بالجنون: ألا تعتقد إن سائق الشاحنة قد وضع للقطيع نوع من المخدر بالماء أو بالعلف؟ لهذا هم خامدون ومطمئنون طيلة الطريق! فكانت إجابتي ابتسامة إعجاب فقط!.. وللمعلومية، هذه القصة موجودة بكتابي الذي ينتظر قرار الطباعة « حمار خلف كل جدار ».