بين التنوير والتقليد
كثيرًا ما يستنكر مثقفونا تقليدَ الفقهاء - واتباع علماء الدين في مسائل الدين عمومًا - تقليدًا أعمى، ويُرد عليهم بأن مسألة التقليد هي نفسها القاعدة العقلائية القاضية برجوع الجاهل إلى العالم، أو العامي إلى المختص، ومن الطبيعي أن العاميّ «1» يثق ويطمئن برأي العالم المختص أكثر من ثقته بتخميناته وقياساته واستنتاجاته «عادةً»، ولهذا فإن العمل بالإحتمال الأرجح الناشئ من تقليد العالم هو أبرأ لذمة المكلف، ولهذا يُطلب تقليد الأعلم، كون الثقة برأيه أعلى من غيره بحكم أعلميته.
إذًا فمبرر التقليد ومعياره هو تلك الثقة العامة بكون فتاوى الفقهاء أقرب إلى مُراد الله، ومن هنا فإنا عندما نشك في رأي معين فلا يعود هنا معنىً للتقليد إذ نحن هنا لا نطمئن أو نثق أو نرجّح كون هذا الرأي أو هذا الحكم هو الأقرب لمراد الله «2»، أي إذا تمّ ما قلناه من تحليل للتقليد المتعارف من كونه مُبررًّا بالثقة والإحتمال الأقرب والأرجح، فإنه لا يصح التقليد ولو من دون اطمئنان وثقة ورجحان، بل أحيانًا يثق البعض ويطمئن بخطأ تلك الفتوى وبُعدها عن حكم الله، وترك التقليد في هذه الحالة الثانية أبلغ، فزوال علة التقليد - وهي الثقة برأي الفقيه - يجعل من المنطقي زوال المعلول، أي التقليد نفسه.
وهنا يُطرح السؤال الجوهريّ الذي لا يمكن إغفاله والتهاون به، وهو السؤال عن كيفية حصول اطمئنان مضاد ومعاكس لرأي الفقيه المتبحر في العلوم الدينية من العاميّ الذي هو سطحيّ فيها - أي العلوم الدينية -، فالمتسائل هنا يسأل عن معيار آخر للثقة برأي ديني غير التفقّه في نفس العلوم الدينية «كعلم الرجال والأصول...»، ويُجاب بأن المعيار الآخر هو العقل.
نعم، فليس العامّي جاهلٌ بالحكم الشرعي جهلًا تامًا مُطبقًا كي يقلد تقليدًا مطلقًا أعمى، بل لديه علم إجمالي بأن أحكام الشرع - على الأقل - عُقلائية وإنسانية وعادلة، ولذلك يمكن معايرة الحكم التفصيلي بالعلم الإجمالي، وعندما تتناقض ولا تنسجم بعض فتاوى الفقهاء مع تلك القيم «3» - في نظر المكلف على أقل - فإنه لا يصح ولا ينبغي - لذلك المكلف - التمسك بها.
إذًا؛ فعقلانية الرأي هي معيار آخر للإطمئنان به لقبوله، مع عدم نسيان الفقهاء كمعيار كما ذكرنا في البداية، ونضج العقل يكون - في رأيي - بسعة الأفق، والإحاطة بمُختلف الآراء والأفكار في العلوم التي تتقاطع «تشترك» مسائلها بمسائل العلوم الدينية وترتبط معها كالعلوم الإجتماعية والتربوية والإقتصادية والقانونية والسياسية، بالإضافة إلى الخبرة الحياتية، ومع ذلك فمعايير كون الشيء عقلانيًا لن تكون - ولا يُتوقع منها أن تكون - مضبوطة بالأرقام، كما هو الحال مع معايير تعيين الفقيه العالم والأعلم، أي أن معايير كون الشخص عالمًا لا تختلف عن معايير كون الشيء عقلانيًا في كونها أمرًا غير مضبوط بدقة - إلى الآن على الأقل -، ولكنها محل احترام متى أعطتنا الثقة والإطمئنان.
إن الدين يتدخل في حياة الناس؛ فيُعاش ويُعاين فيُقاس ويُتعقل «4»، هنا لا تستطيع أن تأمر الناس - ولا سيما المثقفين والمطلعين على العلوم الإنسانية الحديثة - بأن يعيشوا الدين والفقه بلا عقل وبلا أن يقيسوا فتاوى الفقهاء مع قيم الدين، وعندما يكتشف أحدهم تناقضًا بين القيم المُّدعى قيام الدين عليها وبين فتاوى الفقهاء - بغض النظر عن موافقتنا أنا وأنت لكشفه أو لا - فعند ذلك يكون من الأفضل أن يُعزي هذا التناقض للفقيه وعمله «5»، بدلًا من أن يُعزيه للدين.
وهنا أيضًا لا تكفي هتافات المتدينين بقصور العقل وكون أحكام الله لا تصاب بالعقول، فإن العقل - رغم اعترافنا بقصوره الجزئي والنسبي - هو المبرر للإلتزام بالدين، وإن كون أحكام الله لا تصاب بالعقول هو غير كون فتاوى الفقهاء وآراء العلماء لابد من قبولها وإن لم تقبلها العقول «6»، ويحلوا هنا لبعض «المتديننين» أن يرموا رأينا وأصحابه باتباع الهوى والمزاج، والتآمر الدين والتقليل من شأن حصون المذهب، وغير ذلك من الكلام الذي لا يستحق التوقف عنده.
والمقاربة العقلية لا تقتصر على ترجيح رأي فقيه على رأي فقيه آخر، بل إذا كانت المعقولية أساسًا ومعيارًا فقد يؤدي بنا هذا إلى ترجيح رأي غير فقيه على كل الفقهاء إذا أعطى رأيه اطمئنانًا أعلى من آراء الفقهاء، ولعل القارئ جرَّب أن يستمع لنصيحة في التربية من أخصائي تربية - أو ما شابه هذه الأمور - ومع ذلك لم يعمل بها لأنه لم يقتنع بكلامه مع أنه مختصص، فالتخصص ليس الأول والآخر، خصوصًا في مسائل حياتيّة مُعاشة كهذه «7».
”فلتكن لديك القدرة على استعمال عقلك؛ ذلك شعار التنوير“ كما يقول الفيلسوف «كانط»، وإنّي لأعلم أن هذه المقاربة تضعف ثقة الناس بآراء الفقهاء - من جهة كونها آراءً لهم - ولكنها أفضل - وأفضل وأفضل - من تعطيل العقل، وأفضل من أن تَضعُف ثقة الناس بصلاحية الدين من أصله «8» والله المستعان.
خاتمة:
إن ما ندعوا إليه، هو أن لا يكون رأي الفقيه جوابًا نهائيًا، ولا يكون محل تقليد حتي لو خالف قناعة المكلف، أي أن يكون التقليد في الأحكام الشرعية كرجوع العامي للمتخصص في باقي المعارف، بتفعيل العقل واحترام التخصص.