الثقافة السياسية والصداع المزمن
يبدو لي أن هناك علاقة طردية بين الثقافة السياسية في عالمنا العربي وبين الإصابة بالصداع المزمن والضغط وربما السكري أيضا. فكلما انغمس الفرد في الثقافة السياسية ازداد تعلق هذه الأمراض به. وإذا كان في حُمى المتنبي بقية حياء، «فليس تزور إلا في الظلامِ» كما يقول، فإن الصداع وإخوانه المرتبطين بالثقافة السياسية خلعوا برقع الحياء فصاروا لا يفارقون صاحبهم حتى يتأكدوا من مفارقته للحياة.
الحديث عن الثقافة السياسية في مجتمعاتنا العربية لا يخلو من محاذير كثيرة، أهمها اثنان. أولهما النظرة الاجتماعية السلبية للمشتغلين بالسياسة، حيث يعتقد البعض أن السياسة من أعيان النجاسة التي ينبغي اجتنابها.
فالسياسي في نظر هؤلاء شخص لا يمكنه أن يتلبس بالورع، وذلك بسبب مقتضيات السياسة التي تبعد صاحبها عن المبادئ باتجاه المصالح. وقد يستشهد البعض بقول الشيخ محمد عبده: لعن الله السياسة وساس ويسوس وسائس ومسوس، وكل ما اشتق من السياسة فإنها ما دخلت شيئًا إلا أفسدته! أو ربما بقول رئيس الوزراء البريطاني الأسبق ونستون تشرشل: رأيت وأنا أسير في أحد المقابر ضريحا كتب على شاهده هنا يرقد الزعيم السياسي والرجل الصادق، فتعجبت كيف يدفن الاثنان في قبر واحد. فالسياسة والصدق في نظر تشرشل، وهو السياسي الممارس، لا يجتمعان في رجل واحد.
المحذور الثاني الأهم من محاذير الحديث عن الثقافة السياسية النظرة الارتيابية من ممارسي السلطة الذين يخشون مثل هذا الحديث، لأنه يحرك بعض المياه الراكدة، ويطرح شيئا من الأسئلة حول مشروعية ممارستهم وحدود سلطتهم ومداها الزمني وأمثال ذلك من النقاشات التي تسبب أكزيما حادة في جلودهم. ويكفي هذان المحذوران ولوازمهما لصد الناس عن الاهتمام بالثقافة السياسية، برغم تدخل السياسة في كل شأن من شؤونهم من المهد إلى اللحد. أي من شهادة تبليغ الولادة حتى شهادة تبليغ الوفاة.
انصراف الناس عن الثقافة السياسية كان أحد الأسباب الرئيسية في فشل «الربيع العربي»، لأن الوعي السياسي العام كان أقل بكثير مما هو مطلوب لإحداث التغيير. ولذا لم يكن من العسير الالتفاف على «الربيع العربي» وحرف مساره وإدخاله في أتون الصراعات الداخلية البينية، وإشغاله بقضايا جانبية تبدد طاقته وتعطل مسيرته نحو البناء والتقدم.
لكي نعرف أهمية الثقافة السياسية سأضع هنا أحد تعريفاتها الذي أظنه وافيا كافيا. يقول التعريف: يقصد بالثقافة السياسية مجموعة المعارف والآراء والاتجاهات السائدة نحو شئون السياسة والحكم، الدولة والسلطة، الولاء والانتماء، الشرعية والمشاركة.
وتعني أيضاً منظومة المعتقدات والرموز والقيم المحددة للكيفية التي يرى بها مجتمع معين الدور المناسب للحكومة وضوابط هذا الدور، والعلاقة المناسبة بين الحاكم والمحكوم.
ومعنى ذلك أن الثقافة السياسية تتمحور حول قيم واتجاهات وقناعات طويلة الأمد بخصوص الظواهر السياسية، وينقل كل مجتمع مجموعة رموزه وقيمه وأعرافه الأساسية إلى أفراد شعبه، ويشكل الأفراد مجموعة من القناعات بخصوص أدوار النظام السياسي بشتى مؤسساته الرسمية وغير الرسمية، وحقوقهم وواجباتهم نحو ذلك النظام السياسي.
هل تبين الآن سر الارتباط بين الثقافة السياسية والصداع المزمن؟! للصداع أو للحديث بقية.