نقد المقدس
يمكن إصلاح بعض الأفكار الخاطئة بسهولة، بينما يستعصي إصلاح بعض الأفكار الأخرى، مهما تكررت المحاولات وتعددت الطرق لإصلاحها أو تفنيدها. وهنا مكمن الخطر، ومأزق الفكر البشري، عندما تكون الفكرة عصية على النقد والمراجعة والمناقشة المنطقية والجادة.
ورغم أننا نعيش اليوم، في عالمٍ مفتوحٍ، يعج بالكثير من الأفكار المختلفة والمتناقضة أيضاً، لدرجة تدفعنا للقول أنه يكاد أن لا توجد فكرة ظلامية أو خاطئة إلا وفي قبالها رد، بل ردود تصحيحية، لكن رغم ذلك، ومع ذلك، فيبقى الكثيرون منا خارج دوائر التنوير والوعي والفهم، لقضايا تافهة وواضحة وبسيطة، مضافاً لقضايا أخرى غامضة ومعقدة جداً، فلماذا؟!.
هذا السؤال كبيرٌ جداً، وخطيرٌ جداً في مضمونه، ويجب التوقف عنده والتأمل فيه ملياً، لأن أي نجاحٍ في اختراق حاجز السؤال وصولاً للجواب، قد يقلب العالم رأساً على عقب، بمعنىً أو بآخر. لكن هل يمكن ذلك؟! وهل هناك جواب؟! هل هناك خلطة سحرية؟! هل يمكن إلغاء تشابك هذا العالم، وفك تعقيداته، وتداخل الأسباب والمسببات فيه، وصولاً لعلاجٍ واحدٍ وحلٍ سحريٍ واحدٍ؟!.
تكاد الإجابة بنعم هنا، أن تكون ضرباً من الهرطقات، ونزعة من نزعات الجنون، لكن يبقى السؤال ملحاً، والتأمل واجباً، والمحاولات ضرورية، ولو على الأقل من باب تسليط الضوء على المشكلة، أو كشف بعض جوانبها.
وإن أول ما يجب التنويه له هنا، هو أن الأفكار الدينية ليست هي فقط الأفكار العصية على النقد حتى وإن كانت خاطئة، فهناك أنواع أخرى من الأفكار الأخرى غير المرتبطة بالمقدس، لكنها أيضاً تعد أفكاراً عصية على النقد، ومحاطة بهالة حماية أشبه بحالة القداسة التي تؤطر وتحمي بعض الأفكار الدينية الخاطئة.
خذ على سبيل المثال الأفكار المرتبطة بالمعشوق والمحبوب وحبه ومدحه، وكذا أيضاً تلك الأفكار المرتبطة بالأنا ومصالحها خصوصاً تلك المصالح الضرورية والهامة منها. فكل تلك الأفكار عصية على النقد لسببٍ ما.
وعند التحليل، فإن أول مشترك يمكن أن نعثر عليه هنا في جدار الحصانة بين الأفكار الدينية المغلوطة، والأفكار الخاطئة المرتبطة بالمعشوق والمحبوب، والفكر الخاطيء المرتبط بالمصالح الضرورية، كما هو واضحٌ عند التأمل، هو قضية وجود المصلحة العاجلة أو الآجلة، الدنيوية أو الأخروية، المادية أو المعنوية، بحيث تزداد قوة الحصانة هنا بإزدياد عمق المصلحة وأهميتها.
فمصلحة الفرد المتدين من بقاء الفكرة الدينية الخاطئة في عقله وقاموسه وخطابه... الخ، هو الحفاظ على تلك الهوية التي تحفظ إنسجامه مع الجماعة، وبالتالي مصالح إرتباطه معها بكل تفاصيلها وتشعباتها، أو حفظ مصالحه ضمن العلاقة المتصورة مع خالقه أو عالم الغيب. ولذا فإن الأفكار الدينية المتنوعة المخالفة، لا تستفز الفرد بنفس القدر دائماً لاستنفار طاقاته الهجومية والدفاعية والتبريرية بالكامل، إلا بقدر تناقضاتها غالباً مع المصالح الفردية وتصوراتها.
والمصلحة المضادة عندما ننتقد المعشوق أننا سنخسر ذلك المعشوق ونخسر مصالح إلتصاقنا به. وكذا المصلحة المضادة عندما ننتقد ذواتنا ونكشف عيوبنا أمام الآخرين أو نسمح للآخرين بنقد ذواتنا أو أياً مما يتعلق بها، كنقد تلك الإمتيازات التي نحصل عليها، دون وجه حق، في المجتمع أو المهنة أو من صفقة تجارية... الخ، دافعين باتجاه تغييرها، هو أننا سنحصد خسارة أيضاً، لن تكون مما نرغب فيه حتماً.
هذا الحاجز، حاجز المصلحة، موجودٌ دائماً في نقاشات الناس وجدالاتهم، وهو سببٌ مهم من أسباب كثيرٍ من تلك النقاشات غير المجدية والعمياء. وهو قائمٌ في كثيرٍ من النقاشات على جهلٍ، وبرفقة البؤر العمياء التي تحجب الرؤية الواقعية فعلاً أحياناً، وأحياناً أخرى يكون ذلك الحيد عن الواقعية والإنصاف والإعتراف، بوعيٍ وعن عمدٍ وتقصدٍ ورصدٍ وفهم.
وبهذا القدر من الكلام السابق، نكون قد تكلمنا بما يكفي عن الجانب الأول من موضوعنا هنا، وهو «إمتناع النقد» أسبابه ومسبباته.
أما الجانب الآخر الضروري هنا أيضاً، والمتمم والمكمل لمشروع تحصين الخرافات والأباطيل والأكاذيب والمغالطات، في عالم الأفكار، فهو «إمكانية التبرير» وخداع النفس وخداع الآخرين. فذلك جزءٌ من الواقع أيضاً.
فعالم الأفكار يتطلب غالباً التعامل مع المجردات لا مع الواقع مباشرةً، وما لم تصطدم الأفكار الخاطئة والخرافية مع الواقع، فإنها قد يصعب أن تهزم، بل ربما يستحيل أن تهزم أيضاً.
ومثال ذلك في عالمنا الإسلامي، هو هزيمة فكرة عدم كروية الأرض فقط عندما إضطر الناس للإصطدام بالواقع، وعندما اضطروا لمعايشة تلك الكروية عبر تجارب الحياة العملية وممارساتها ومشاهداتها. فبقي المنزوون عن الحياة في كهوفهم الخاصة، في ساحة الإيمان بالخطأ تلك لوحدهم.
إن التعامل مع الأفكار، مثل التعامل مع الهواء، فالهواء لا يمكن رصد مكوناته بسهولة ودقة إلا بأجهزة تجعلك مباشرة في مواجهة مع الواقع، والأفكار المضللة كذلك بحاجة لمواجهة مباشرة مع الواقع لتتضح حقيقتها، أو أقلاً أن تتم محاكاة ذلك الواقع في عقول فذة مثقفة أو متعلمة ومطلعة تمتلك معرفة وكفاءة في التعامل مع الأفكار، وهو ما لا يتيسر لكل أحد، خصوصاً عندما يكون الفرد من المتقاعسين أو غير المتفرغين للبحث والإستقصاء والمعرفة.
إن غياب المعلومات، وضعف القدرات الذهنية والمعرفية ومناهج التفكير غير الصحيحة وغير المتزنة، وبقاء الفكرة بمنأى عن الواقع، وعن القدرة العقلية على ملامسة ومحاكاة الواقع، وارتباط الفكرة الخرافية أو المغلوطة بالمصلحة الذاتية لقاريء الفكرة أو المتحدث عنها أو من يناقشها أو من يستمع لها ممن يرتبط معها بنفس تلك الروابط والعلاقات والظرف والحيثيات، كل ذلك يجعل الفكرة قابلة للتبرير، في محيطٍ مليءٍ بالضبابية والحجب والغموض، المخيمة على ساحة أمثال هؤلاء المناقشين والمحاورين والمتحدثين والمؤمنين.
إن كل هذه الإشكالات مجتمعة، تحيط بمحاولات التنوير وبنقد الفكر الخاطيء والفكر الخرافي والأسطوري المقدس وما شاكله، وأول الطريق لتجاوز ذلك المحيط من العقبات، هو معرفة ذلك والوعي به.
ونحن هنا، نتجه لتوجيه خطابنا هذا هنا للفرد ذاته، قبل توجيه خطابنا للمصلحين الذين يسعون للتعامل معه ومع عقليته لتنويره وإصلاح أفكاره، من باب إيماننا بمسؤولية الفرد الضرورية عن ذاته وعن نفسه أولاً قبل كل شيء وقبل كل أحد. آملين من الفرد ومطالبين له، بالتأمل ومعرفة تلك الإشكالات وطبيعتها، ليقوم هو بعدها، بالتزود بالمعرفة والإستقراءات، التي تلغي حواجز الجهل، الذي يحجبه عن الحقيقة، وليكسر بعد معرفة ذلك حواجز المصالح الذاتية، بالتسامي فوقها، ليبصر النور، وليركب بعد معرفة ذلك، في مركبٍ من العقلانية والنور والقدرات والمهارات العقلية، التي يمكن أن يعبر بها فوق التبريرات، بالوصول بقدراته العقلية، لقدرات عقلية وعلمية تؤهله لتنزيل الأفكار من عالم المجردات إلى عالم الواقع، أو لمحاكاة ذلك الواقع بقدرة وكفاءة وأهلية عالية، تخرجه من عالم الظلمة الضيق والمرعب والمخيف، إلى عوالم النور الواسعة والممتدة والرحبة.