بين البكاء والمعرفة الدينية
رغم أن البكاء لا يعد خصوصية دينية شيعية ولا إسلامية، لكن الشيعة إمتازوا عن كثيرين من غيرهم، من المسلمين أقلاً إن لم يكن على مستوى العالم، في درجات الإعلاء من شأن البكاء الديني وفي مستويات تشريفه وممارسته.
لكن البكاء يبقى في حقيقته، ظاهرة كونية عابرة للأديان والثقافات، تتجاوز كل حواجز التنوع والإختلاف البشري، وتعبر كل أرجاء الكرة الأرضية، لذا يمكنك أن تجده في كل مكان وفي كل الأديان وفي كل الثقافات، أنا حللت أو ارتحلت.
فتجده مثلاً، في الإنجيل عند المسيحيين، في نصوصٍ منها: «وَلكِنِ الآنَ، يَقُولُ الرَّبُّ، ارْجِعُوا إِلَيَّ بِكُلِّ قُلُوبِكُمْ، وَبِالصَّوْمِ وَالْبُكَاءِ وَالنَّوْحِ» «سفر يوئيل 2: 12».
وتجده في التلمود عند اليهود، الذي ورد فيه القول: «إن الله لم ينقطع عن البكاء والنحيب لأنه إرتكب خطيئة ثقيلة... »، كما يشتهر اليهود بالتعبد عند حائط المبكى - نسبة إلى الطقوس التي كان اليهود يؤدونها قبالة الحائط، حدادًا على خراب هيكل سليمان -.
أما البكاء عند المسلمين السنة والشيعة، فهو أيضاً مشتركٌ من المشتركات الروحية والإنسانية، وإن إختلفوا فيه في بعض التفاصيل الدينية، وهو واردٌ في صريح نصوص القرآن الكريم ومنها قوله تعالى في سورة الإسراء آية 109: « وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً».
كما أنه واردٌ في نصوص السنة النبوية أيضاً، وهو جائزٌ عند علماء السنة كما هو جائزٌ عند علماء الشيعة حتى في مسألة البكاء على الميت، مع ملاحظة إختلافهم في بعض التفاصيل الدينية، وفي ذلك يقول الشيخ العيني معقباً على رواية يذكر فيها بكاء النبي على الميت: فإن قوله: «« ففاضت عيناه » بُكاء من غير نوح، فَيَدُلّ على أن البكاء الذي يكون من غير نوح جائز، فلا يؤاخذ به الباكي ولا الميت».
أما عند علماء النفس، وبحسب الجمعية النفسية الأمريكية «American Psychological Association»، فإن للبكاء عوامل مختلفة عند البشر منها: عوامل الجنس والثقافة. فالمرأة مثلاً أكثر بكاءً من الرجل.
وبالنسبة لدور البكاء الإيجابي، فيعتبر بكاء الرضع مثلاً أداة تواصل مهمة وإيجابية، بينما تعتبر قضية عدم القدرة على البكاء قضية من القضايا الطبية التي تحتاج للدراسة والمتابعة.
والنتيجة هي أن البكاء في حدوده الطبيعية دون زيادةٍ ولا نقصٍ ظاهرة طبيعية لدى البشر، يقرها العقل والمنطق والطبيعة والطب والعلم والأديان... الخ، ولا سبيل لانتقاص البكاء كحالة بشرية متزنة، ما لم تكن هناك مبررات واضحة.
وعندما نأتي لقراءة ممارسات البكاء وثقافة البكاء عند الشيعة، فسنجد أن البكاء والتباكي عند الشيعة قد أخذ ولا زال يأخذ مساحات واسعة من حياتهم الثقافية والواقعية، حيث نجده مدعماً بالكثير من النصوص الدينية الإسلامية العامة، وكذا النصوص الشيعية الخاصة، ولذا جسد الشيعة البكاء في الواقع بكثرة في إنعكاسات واضحة لطبيعة ثقافتهم التي عظمته وشجعت عليه، ليغطي مساحة واسعة من أيام السنة.
وقد وردت في ذلك مرويات كثيرة تحث على البكاء، نختار منها: ما روي عن فضيل بن يسار، عن أبي عبد الله قال: «من ذكرنا عنده ففاضت عيناه ولو مثل جناح الذباب غفر الله له ذنوبه ولو كانت مثل زبد البحر»، وسائل الشيعة، ج 14، ابواب المزار وما يناسبه، ب 66.
ويمكن القول هنا أن الإعتراضات على الشيعة في قضية البكاء، إنما تنطلق في الغالب من خلفية دينية أو دينية ثقافية تراثية عاطفية روحية مجتمعية مغايرة، لكنها لا تتكيء في حقيقتها لا على حقيقة علمية ولا طبية ولا نفسية، ومن الطبيعي أن يقال هنا إنصافاً، لأن الأدلة المنطقية تعجز هنا غالباً في حسم الإشكالات الدينية، لارتباطها بتعقيدات عاطفية ونفسية واجتماعية... الخ، أن على كل طرفٍ أن يلتزم بموروثه الثقافي الديني الذي صدقه وآمن به، فهو حجة عليه لا على غيره.
لكن، في إطار النقد الداخلي الشيعي الشيعي، فإن هناك إشكالاً حقيقياً خفياً، أو يكاد أن يكون كذلك، وهو موجه خصوصاً للعوام من أبناء الطائفة، الذين تشغلهم في كثيرٍ من الأحيان، بعض الطقوس والممارسات المستحبة، عن الجوهر الديني والمذهبي.
إن ممارسة البكاء ظاهرة حسنة، بلا شك، لها دور في التنفيس النفسي، وتكشف دينياً عن حجم التعلق بأهل بيت العصمة ، وعن عمق موقعيتهم في قلوب الموالين والأتباع من الشيعة والمسلمين، لكنها في الحقيقة والواقع، تصل في أكثر حالاتها عند عوام أبناء المذهب، لمستوى ممارسة الإيهام للنفس وللآخر الموافق.
وأتصور أن من المهم أن نسأل أنفسنا بجد: أيهما أهم، مجرد البكاء الطقوسي على النبي والأئمة الأطهار ، وبذل الجهد في الإهتمام بذلك في كل المآتم وفي كل المناسبات؟ أم بذل الجهد قبل كل ذلك، في معرفة شخصياتهم وعلومهم ومعارفهم ؟!. وبصيغة أبسط: أيهما أهم، المعرفة أم البكاء؟!.
إن الملاحظ لدينا عموماً، أن الكثيرين يركزون جل إهتمامهم في تدينهم، على ممارسة بعض الطقوس السطحية - الظاهرية - كطقوس البكاء وعدد الركعات المستحبة، ما يوحي للملاحظ البسيط عمق تدين ممارس تلك الطقوس، بينما تعد علوم هؤلاء المتدينين ومعارفهم، بالدين وأنبيائه وأئمته ، مجرد معارف وعلوم سطحية قشرية، إن لم تكن أيضاً ناقصة ومشوهة ومغلوطة، بحيث يمكن القول هنا جراء ملاحظة ذلك، أن الناس قد أخطأت كثيراً في ترتيب الأولويات الدينية، لدرجة يمكن فيها القول أن الفرد قد يحسن البكاء، لكنه قد يخفق حتى في إثبات ضروريات الدين المتمثلة في أصوله. ما يؤدي لأن نستحضر هنا هذا المتدين الجاهل بأمور دينه كما نستحضر أي متدينٍ بسيط من أي دينٍ آخر يعيش في مجاهل الهند أو في غابات أفريقيا... الخ. ليتحول التدين إلى مجرد طقوس بلا حقيقة ولا معرفة ولا جوهر.
لذا فهذا الواقع بلا شك، يستوجب منا جميعاً وقفات مراجعة منطقية جادة، نعيد فيها ترتيب الأولويات الدينية والقيمية، ننقل فيها الإهتمام في مفاهيمه من مجرد ممارسة شكلية للبكاء وما شاكله، إلى معرفة حقيقية بالدين ورموزه ومفاهيمه تغذي حقيقة التدين وتجذره، نصب فيها المزيد من جهود الإهتمام بالمساحات الهامة المهملة.