وقوف خاطئ
خرجت قاصداً محل خياطة الملابس كي أستلم ثيابي وثياب ابني، حسب الموعد الذي حدده لي الخياط شمس. محل الخياطة هذا يقع في الحي القديم من بلدتي، حيث الشوارع الضيقة، والسيارات الكثيرة، والأطفال الأبرياء الذين يقطعون الشارع ذهاباً ورواحاً، والبسطات التي تبيع الفواكه والخضار والسمك.
وهو في ذات الوقت ملاذاً لكبار السن في بلدتي حماهم الله وحرسهم وأطال أعمارهم. مكان يشعرك بالدفء والمحبة في كل مكوناته، سواء من تدب فيه الحياة أو حتى الجماد.
وحتى أصل لمحل الخياطة لابد أن أخترق هذا الحي الجميل، المعروف بـ «العريش»، والمعطّر برائحة الماضي العبق، وحقيقة عندما تقودني الحاجة الى هناك أضع يدي على قلبي خوفاً من أن أصاب أو أصيب، وبالتالي قد أعكّر صفو ذلك المكان وبراءته.
احتجت أن أطرق ذاك الحي الجميل لأستلم ثيابي وثياب ابني. قدت السيارة باتجاه الحي حتى وصلت له، ثم توغلت بداخله. وقبل أن أصل الى محل الخياطة بأمتار قليلة ازداد الزحام، وكانت السيارات كالقاطرة خلف بعضها. أمعنت النظر وإذا بالطريق يضيق كثيراً، نظراً لأن هناك مواد بناء مطروحة على الأرض أمام بناء للتو يُشيّد. فقررت أن أرجع قليلاً للخلف وأقف بسيارتي في أي مكان قريب، وأترجل للمشي نحو المحل سيراً على الأقدام.
لمحت مكاناً فارغاً في زاوية الشارع بجانب محل للخضار، فأوقفت السيارة وفي ظني أنني لن أعيق الحركة، سيّما وأنني سأقف لدقائق فقط، حيث الملابس جاهزة وما عليّ الا أن أستلمها.
وصلت محل الخياطة. رحّب بي أحد العمال فبادلته الترحيب، ثم طلبت منه الثياب. بحث عنها فوجد ثيابي سريعاً، لكنه ظل يبحث عن ثياب ولدي، مرة واثنتان وثلاث، بحث في كل الثياب الجديدة المعلقة فلم يجدها. فسألته عن شمس، فقال: أنه يصلي العشاء وسيأتي بعد عشر دقائق. فقلت له: لا أستطيع الانتظار، اتصل به وأسأله عنها. فاتصل به وسأله، فأجابه: سآتي الآن.
وصل شمس فوجدها مباشرة دون عناء. أعطيته الأجرة وشكرته بعد أن ظللت قرابة ربع ساعة بدلاً من دقائق. توجهت للسيارة فوجدت عامل محل الخضار يطالعني وفي فيه كلام، لكنه خجل. فقد كان شاباً في العشرينات من العمر. شجعته على قول ما يريد. فقال بلهجة عامّية محببة: عمّي كان وقفت قدام شوي. فقلت له: عندما أوقفت سيارتي كانت أمامي سيارة، والمكان الفارغ الذي تراه أمام سيارتي الآن نتيجة مغادرة تلك السيارة. ثم أضفت معتذراً: آسف إن كان وقوفي قد أزعجك «برغم أنني أوقفت السيارة بجانب المحل لا أمامه». فقال لي: لا عمي بالنسبة لي لا مشكلة، لكن هناك أشخاصا مرّوا بسياراتهم وانزعجوا من ايقاف سيارتك في هذا المكان، وبعضهم.... صمت ولم يكمل، ففهمت وشكرته، ثم ركبت سيارتي وغادرت سريعاً لأن لدي ارتباط.
في تلك الليلة كنت دائم التفكير بما فعلته، واستغفرت الله سبحانه مائة مرة. كنت ألوم نفسي تارة، وألتمس لها العذر تارة أخرى، مبرراً هذا الالتماس بظني أن موقف سيارتي لن يؤثر على حركة السير. عصر اليوم التالي عدت للعامل في محل الخضار واعتذرت منه مرة أخرى، فكان أكثر خجلاً وكأنه ندم أن أبلغني بما حدث. ثم قلت له: أتعرف الأشخاص الذين تسببت لهم بالإزعاج جراء وقوف سيارتي بهذا المكان حتى أعتذر لهم واحداً واحداً. فقال: لا. ثم أضاف: أنت ونيتك عمي، واضح أن نيتك سليمة. روح الله يسامحك. فقلت في نفسي: صحيح كلامك يا بني، نيتي سليمة والله يشهد، ولم يكن قصدي أن أزعج أو أضايق أحداً، لكن أرجو من الله سبحانه أن يسامحني ويغفر لي.
في المقابل وعلى النقيض تماماً كان لدينا في الحي الذي أسكنه مناسبة عزاء. أحد المعزين جاء متأخراً، فلم يجد مكاناً يوقف فيه سيارته نتيجة ازدحام السيارات، وأتصور أنه لمح المكان الفارغ أمام باب الكراج الخاص بي، فأوقف سيارته وذهب.
اضطررت للخروج من المنزل لحاجة ضرورية. فتحت باب الكراج واذا بي أعجز عن قيادة سيارتي لوجود سيارة ذلك الشخص أمام الباب. خمّنت مباشرة أن صاحب السيارة هو أحد المعزين. وقعت في حيرة، ماذا أفعل؟ لا سبيل أمامي سوى الانتظار حتى يأتي.
بعد ساعة تقريباً جاء، وكنت في انتظاره وأنا منزعج تماما من فعلته هذه. بادرته بالقول: صحيح أنك كنت تؤدي واجب العزاء ولك أجر، لكنك قد تحرم هذا الأجر بوقوفك بهذا الشكل الخاطئ، وبتعطيل مصالح الناس. فقال ببرود ودون ذرة خجل: خير ان شاء الله ما صارت ربع ساعة التي وقفنا فيها، ما طارت الدنيا. ثم ركب سيارته وغادر.
وفي موقف آخر روى لي أحد أقربائي موقفاً تعرض له، حيث أوقف سيارته أمام منزله، فجاء شخص ووقف بجانب السيارة طولاً بطول، فحجز سيارة قريبي، وضيّق الطريق على السيارات الأخرى بحيث لا يمكن أن تمرّ الا سيارة واحدة فقط، وكان الطريق يستخدم ذهاباً واياباً. «وأن من المحرمات سد طرق المسلمين». ففي رواية: «من الذنوب التي تعجل الفناء سدّ طريق المسلمين» «1». كما أن تضييق الطريق يعد سلباً لحق الآخرين.
خرج قريبي ضياء لقضاء أمر هام، ففوجئ بالمنظر وضرب كفاً بكف. وبرغم حيرته لم يكن أمامه سوى الانتظار. بعد نصف ساعة وصل صاحب السيارة، ولمّا شاهد الغضب على وجه قريبي، اعتذر له. فردّ عليه ضياء قائلاً: أين أصرفها؟ وما فائدة أسفك. لقد عطلتني وأخرتني عن قضاء حاجاتي الضرورية التي خرجت من أجلها. اعتذَر مجدداً وذهب. في هذا الموقف اعتذار وفيما قبله لا اعتذار، لكن التصرف الخاطئ في الموقفين واحد.
مواقف كثيرة مماثلة، منها شخص كاد يفقد والدته التي احتاجت للمستشفى ولم يتمكن من نقلها، لأن هناك شخصاً غير مبالي وقف أمام باب كراج منزله. والطامة الكبرى لو كان المتضرر من ذوي الاحتياجات الخاصة.
إن هذه التصرفات من عدد غير قليل من أبناء المجتمع يشير الى أن هناك مشكلة في سلوكياتنا، وخطأ يفترض التنبيه عليه، وخلل يجب اصلاحه. فمن يقوم بمثل هذا العمل يراه بالتأكيد أمراً سهلاً - وهذه مشكلة كبرى ـ ولو تعرّض هو نفسه لمثل هذا الموقف لأحسّ بحجم خطأه وكبر جرمه، خاصة وإنه « يحرم وفي الحد الأدنى يكره أن يمر الإنسان في طريق ويترك فيها آثاراً سيئة ». والوقوف الخاطئ المضرّ والمعيق لمصالح الناس هو من الآثار السيئة.
بدلاً من أن نتعاون في جعل الطريق مريحاً خاصة مع الازدياد المضطرد لأعداد السيارات، ونتكاتف من أجل اماطة العراقيل عنه، نستمر في إقفال الطريق، وإعاقة الناس عن قضاء حوائجهم بحجز سياراتهم.
عن رسول الله : «من أماط عن طريق المسلمين ما يؤذيهم كتب الله له أجر قراءة أربعمائة آية كل حرف منها بعشر حسنات» «2». انظر كيف يربينا رسول الله.. ثم انظر كيف نتصرف نحن، وكيف نؤذي غيرنا بتصرفاتنا هذه.
يروي لي أحد الأصدقاء موقفاً ملخصه، أن عاملاً هندياً أوقف سيارته أمام سيارة أحد الأشخاص، والذي حاول بعد مجيئه أن يحركها في كل اتجاه ليخرج بها، لم يتمكن. فتملّكه الغضب، وأحضر أداة حادة وقطع اطارات سيارة الهندي الأربعة. عاد الهندي فتلقاه ذلك الشخص بالصراخ والتهديد والوعيد. ترك العامل الهندي الوضع على ما هو عليه وذهب للشرطة.. بعد معرفة الشرطة لملابسات الموضوع، حكم على الشخص بتعويض الهندي مادياً جراء ما أتلف من سيارته والاعتذار له. أما الهندي فقد حررت له مخالفة وقوف خاطئ فقط.
أصبح ذلك الشخص هو المخطئ، برغم أن الحق كان معه قبل تصرفه. حتى والحق معنا لا نجيد التصرف، ولا نحسب انفعالاتنا بشكل صحيح.
أرى بأن هذا السلوك - غير الحضاري - هو نتاج ثقافة مجتمع وليس وليداً للفردية، فعلى عاتق المجتمع يقع الكثير نحو تمدد هذه الحالة واللامبالاة فيها. وبالتالي مطلوب من المجتمع والمؤسسات المعنية، البدء في توعية أبناء المجتمع بخطورة الوقوف الخاطئ. ومراعاة الأخلاق والآداب المرورية وبالخصوص آداب الطريق، والتي حثّ عليها الإسلام وأهتم بها، لكي يبتعد أبناء المجتمع عن الأنانية وحب الذات، وبالتالي يبرز الوجه الحضاري للمجتمع. كما أن على الجهات الرسمية المعنيّة، تشديد العقوبة من أجل الحد من هذه الظاهرة، وتكثيف الحملات الإعلامية والميدانية.
ولنبدأ بتثقيف أبناءنا طلاب المدارس. فالمجال هناك رحب لغرس قيم المثالية، واحترام الآخر وحقوقه، ومنها عدم التعدي عليه، بإعاقته عن الحركة، عندما يقيّده شخص ما بوقوف خاطئ.
وتقبّلوا تحياتي،،