انتقدوا بحب «2»
النقد كما هو ضرورة في حياة الأفراد والمجتمعات والمؤسسات، فإن الالتزام بأخلاقيات النقد ضرورة أيضا كي يؤتي ثماره.
ولعل من أهم تلك الأخلاقيات وأصعبها في التطبيق إنصاف المنقود شخصا كان أو فكرة أو سلوكا. غالبا ما يقترن النقد في أذهاننا بالتفتيش عن النوايا وتصيد المثالب، وربما اختراعها عن طريق التأويل الخاطئ والتفسير الموجَّه.
وعندما ندخل ساحة نص أو شخص أو موقف محملين بذهنية محاكم التفتيش، فإننا نكون أبعد في التعرف على حقيقته وأقرب إلى فهمه بطريقة خاطئة. لذا فإن الإنصاف يقتضي قبل كل شيء تحييد العوامل المؤثرة سلبا في عملية الفهم، سواء كانت نفسية أو ثقافية أو غيرها.
وهذا أمر عسير جدا يدركه حق إدراكه المنقود أكثر من الناقد. لقد أكد القرآن الكريم على قيمة ممارسة العدل في الواقع الخارجي أيما تأكيد، ونهى عن إعمال المؤثرات السلبية المخلة بالعدل. يقول تعالى: «وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلَّا تَعْدِلُوا» ويقول سبحانه «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلى بِهِما فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوى أَنْ تَعْدِلُوا». ومع كل تلك التأكيدات والتنبيهات والإرشادات، فإن واقعنا الراهن أبعد ما يكون عن الإنصاف وأقرب إلى نقيضه أو ضده.
من ضمن ما يقتضيه الإنصاف أيضا أن يضع الناقد نفسه موضع المنقود، أي أن يجعل المنقود هو ذاته أو فكره أو فكرته أو سلوكه، قبل أن يشتغل بعملية النقد، الأمر الذي قد يجعله يعيد النظر في نقده.
ضمن سلسلة مقالات عن النقد نشرها في جريدة الوطن، كتب الأستاذ «عبد الله المطيري» مقالا بعنوان «الأخلاق النقدية والنقد الأخلاقي» رأى فيه أن الالتزامات الأخلاقية في النقد " هي في جوهرها نقد ذاتي تتم من خلاله مراجعة الناقد لنفسه قبل مراجعته للآخرين. هذه العلاقات الإجرائية تضع الناقد أمام مهمة ومسؤولية قد لا تتوافق مع اندفاعاته الأيديولوجية والعقدية، فهي باختصار تطلب منه أن يرى منقوده أي أن يقرأه باحترام.
أو بعبارة أخرى هذه الأخلاق الإجرائية تطلب من الناقد أن يغالب كل حماسته للقول بأن ينصت أولا".
هذا كله فيما يخص الناقد، أما ما يخص المنقود فإن المطلوب منه أن يتسع صدره للنقد وأن يتقبله بروح رياضية كما يقولون، رغم أني ما رأيت في الملاعب ما يؤكد وجود هذه الروح المفترضة.
المطلوب من المنقود أن لا ينشغل بشخص الناقد وإنما بذات النقد ومدى مطابقته للواقع. فإن كشف النقد عن خلل أو عيب أو نقص، فإنّ أقل مكافأة للناقد أن يؤخذ نقده مأخذ الجد، وأن يقوم المنقود بسد الخلل وإصلاح العيب وإكمال النقص. أما المكافأة الأكبر للناقد فهي أن يكون من أقرب الناس محبوبية عند المنقود، لدوره الإيجابي في التبصير بالعيوب والسلبيات ابتغاء الإصلاح.
وهذا ما دعت له الروايات الشريفة، كقول الإمام علي : ليكن آثر الناس عندك من أهدى إليك عيبك، وأعانك على نفسك. وقوله أيضا: ليكن أحب الناس إليك من هداك إلى مراشدك، وكشف لك عن معايبك.
فلننتقد بحب، ولنتقبل النقد بحب أيضا..
دمتم بحب.. جمعة مباركة.. أحبكم جميعا.