من الأحساء إلى القصيم!
بعد عودة أسرتي من مملكة البحرين بالثمانينات الميلادية كوننا انتقلنا بها لعدة سنوات وأنا رضيع، ثم استقرارنا بكنف الأحساء الخضراء شرق السعودية، والعيش لعقـد من الزمن وسط مجتمع محافظ ينتهج تعاليم الإسلام خطوة بخطوة حتى النخاع، مجتمع يحمي الطفلة تحت السواد عند بلغوها تسعة أعوام، ويمنعها من الاختلاط بالأولاد واللعب بالحارة، وحتى الكلام مع الكبار، مجتمع يضع جدار عالٍ بين آدم وحواء، ويعاقب على مفاكهة النساء بالقول!
لقد ترعرعت وسط أسر عربية من أهل الضاد، مسلمة الدين وشيعية المذهب، وتعود أفخاذها إلي قبائل عريقة، ومنها عشريتي الدهامشة التي تنحدر من عنزة ثم إلي ربيعة حتى بكر بن وائل.. أنا لست ممن يضرب على وتر القبلية أو ينادي بها، لكن إكمالاً للمربع الذي أحاول تركيبه أمام القارئ، فلقد اصطدمت بواقع مرير وثقافة لا تحاكي رسالات السماء، وهو الإسلام المحمدي الذي يعامل الناس كبشر سواسية، وبعث نبيه وصحبه الكرام رحمة للعالمين، وليس للمسلمين فقط، والذي ينادي بمكارم الأخلاق ولا إكراه بالدين، كل هذا خلق صراع متواصل بداخلي، وأوجاع فكرية وتنهيدات لا تتوقف حتى كتابة هذا المقال، فلقد واجهت ألغام وعثرات أثارت حفيظتي وتساؤلاتي عن مستقبل أبناء وطني، إنه مع الأسف « موروث الأجداد للأبناء ».
صحيح أن تركيبة وطني متنوعة النحل، ومترامية العروق والأطياف واللهجات كترامي جغرافية أرضه، لكن هذا غير مبرر لدحرجتنا أنفسنا وأبنائنا بطريق ترابي مجهول النتائج، فعدة عوامل كانت مؤثرة على نفسيتي وتفكيري، وكانت سبباً لتلك الصدمة، ومنها الموروث الاجتماعي والثقافي والعقائدي والفكري، إذ كنا صغاراً نهاب أخوتنا السنة كبعبع مخيف! وخاصة عند ذكر منطقة القصيم، كنت أظن إنهم من بلاد الواق واق، أو من كوكب ثان، فقال عنهم الموروث وشاهدت بالأثر إنهم متشددين ومكفرين ومنفرين، ويرفضون كل شئ، والإقصاء عندهم كشربة ماء! وأنا بنظرهم غير مسلم أصلاً، مع أني أنتمي لمحافظين بتقاليدهم وعاداتهم الدينية والعقائدية، ومحاصر بأسم محمد وتعاليمه بكل الاتجاهات، وكوني أجد التشدد بكل العلاقات الاجتماعية هنا! أو حرمة وضع القرآن الكريم على الأرض! أو رمي الخبز، أو مواجهة القبلة عند قضاء الحاجة، أو حلم أمي أن تحج معي إذا كبرت.. والمصيبة أنه صعب علي التأكد بنفسي بما يحكى عن القصيم، فلا هم يعيشون معنا، ولا نحن نفكر بالعيش معهم، إذ لم ولن يفكر أحد من منطقتي حتى السفر أو العمل ببريدة أو عنيزة، وإنني لو ذهبت إليها سوف يقتلوني كوني من الوسط الشيعي الكافر، وأني لم أرى قصيمي يسكن حارتي، والمفاجأة أن قبيلتي انحدرت أصلاً من شمال القصيم!
كبرت مع الزمن، وكبرت همومي تجاه وطني، وثقلت سلة عقلي بتفكيري من تكفيري، فغادرت البحيرة، وأصبحت عليّ مسؤوليات كبيرة، لكن مازال هاجس يسكنني، وهو خوفي على أبناء جلدتي، فأحيانا أتخيّل أني أحاضر وأدرب بالقصيم كما فعلت بالرياض وباقي مناطق وطني الغالي، لكن الفوبيا القديمة لي بالمرصاد!، ولماذا لا يحدث هذا؟ فيوجد لديهم الأجنبي والأعجمي المقيم، والمختلف عنا ديناً وعرقاً ولغة وفكراً، وحرام عليّ أنا شريك الأرض والهواء والماء والوطن والعلم!
قابلت وجوه كريمة من وطني، وكان من بينهم شباب كرام من القصيم، فجلسنا وأكلنا وشربنا معا، حتى انصهرت بيننا أخوة الدين والدم واللغة والمواطنة بالعيش والملح كما يقال، فدار بيننا طرح فوبيا القصيم، فتفاجأت باعتراف أحدهم: وأنا كذلك أحمل نفس الهلع، وأن موروث أجدادي غرس بقلبي شجرة الحذر من أهل الأحساء والقطيف، وأنكم غير مسلمين وأخطر من اليهود! ولكم عصاعص كالقردة، وتـتبولون أعزكم الله وتبصقون بالشاي والقهوة، والكثير من التهريج، وإذا سافرت الي المنطقة الشرقية، أكون حذرا عند قيادتي بطريق الكورنيش، وأعود أدراجي بسرعة عن عند رؤية لوحة تخبر باقترابي من القطيف وقراها، وهذا أمام مرآى زوجتي وأبنائي! مع أني متشوق لزيارة أسواقها الشعبية، ورؤية معالمها التاريخية، والأكل من خيراتها البحرية، وكذلك شغفي منذ الطفولة بزيارة منطقة الأحساء العريقة، حضارة جلجامش القديمة، وحضارة الفينيقيين والجرعانيين، وبلاد طرفة وعبد القيس الكرام، وسند توحيد مملكتنا الحبيبة، وحلمي زيارة جبل القارة الشهير، والصلاة بمسجد جواثا المعلم الإسلامي العتيق! لكن يبقى كل هذا أمنية وحلم مواطن يسرق النظر من خرم جدار! وما منعه إلا غرس بذرة الموروث القديم، والطائفية المقيتة التي وضعها الأجداد، لقد عهدوا أجدادنا الي رحمة الله تحت الأرض، ونحن ندفع الثمن غالياً ونتصارع فوقها! لقد أورثونا وطنا ًجميلاً محملاً بإزر وأثقال من التباعد والتنافر وعدم الثقة بشريك الوطن.
لكن اليوم نحن نراهن على أبناء الوطن النجباء، ونراهن على العقول النـيـّرة التي تبحث عن مستقبل مشرق، ونراهن على أولياء أمر بقيادة حكومة رشيدة، ستبحث عن الأفضل والأنجع لمستقبل أجيالنا، وستبعد كل ما يخلق الفتنة والنفرة ويعكر الصفوة، ولن يعرقل أيا كان مسيرة وطننا الجميل، من الأحساء مروراً بالرياض والقصيم الي مكة والمدينة، ومن الشمال الي الجنوب، وكل شبر بوطننا الغالي، وسيظل الوطن واحد، والمواطنون محبين ومخلصين لوطنهم ولأبناء جلدتهم شركاء المستقبل والمصلحة والأمن، فأخاطب هنا العقول! ولنحمد الله، بعيداً عن أخطاء الماضين، ومهاترات المعاصرين، وكفى بالجيران عبرة وعضة، ولتعلم يا شريك الوطن، إن وحدتنا صمام أمان لبقائنا، والقادم أجمل إن شاء الله.