في بيتنا كافرة!
علامات الاستفهام حلقت فوق رأس كفيلها السعودي وأبنائه كالعصافير بعد أن صرحت الخادمة النيبالية بالمطار قبل دقائق من مغادرتها، وبعد أن قالت: أني لم أسلم قـط! ومازلت بوذية! وليس لي علاقة بالإسلام، بلا صغيرة أو كبيرة، إنما طلبا للقمة العيش، والسعي خلف رزقي، وعدم الانجرار خلف الرذيلة وبيع شرفي في بلادي، وبطلب من مكتب العمالة، وافقت على تغيير أسمي وديني بالوثائق الرسمية بكاتماندو، كي أنال فرصة العمل لديكم، وها آنا أغادركم وأعترف لكم بديني الحقيقي، لكن كنتم خير أهل لي، وعشت معكم أجمل أيام حياتي، وأسم خديجة جداً جميل، لكن سأعود الي وطني وسيعود لي أسمي الأصلي، فأنا هي أنا، ولم أتغير من الداخل، وهذه هي أخلاقي التي عشتها معكم، ولم أتغير من الداخل، لكن وضعت القناع الخارجي الذي يشاهدني به العالم، وحسب مواصفات العمل.
صرح الكفيل لي: تلك الدقائق التي حدثت بالمطار لم تراوح تفكيري وأنا أقود السيارة أثناء عودتنا، حتى أني استلمت بالخطأ عشاء من المطعم، غير الذي طلبناه! لا تلومني أخي الكاتب، فقد عشت بدوامة فكرية، فلقد كانت الخادمة تتمتع بمكارم الأخلاق الإسلامية الحقيقية، وهذا شاهدناه ولمسناه من أثرها وبصماتها، فإذا وضعتها على الجرح يطيب، على حد تعبيره، وهي مسلمة بتصرفاتها، من معاملة، أو دين، أو أمانة، وكانت خير عون لأمي العجوز، وكالظل الذي يتبعها، وترى هذا في عيونها وهي تلقمها اللقمة وتشربها الماء، وهي تبرّها عشرة أضعاف ما يقمن به أخواتي وزوجتي، ومن القلب! صدقني ليس تمثيل!، إذ خوفنا مما نشاهده بالأعلام من جرائم الخادمات، دفعنا أن نضع كاميرا فيديو سرية بغرفة الوالدة والمطبخ، وعندما نشاهد التسجيل يجن جنونا، حتى أن الغيرة اشتغلت عندي، فأخذت مرة الطبق من يدها ولقمت أمي بدلاً عنها! وهذا درس تعلمته من خادمتنا ومن كرامات الكاميرا، وبمجرد أن تجد قطعة ذهب مرمية بالأرض تضعها على الطاولة حتى تستيقظ زوجتي فتخبرها بها، وهذا مالم يفعله أحد أقربائي الذي سرقنا بعد دخوله بيتنا أول مرة! وموثق بالكاميرا نفسها!
لدي بعض الإشكالات التي يطرحها عقلي الصغير، وهي عن السلوك الأخلاقي والإنساني الذي ينعكس على البشر بعد أن يكتسبه من دينه ومن مجتمعه والبيئة التي تحتويه، فهل خادمتنا مسلمة امام الخالق وهي مسلمة التصرفات؟ وقد حققت غاية الشهادتين؟ وهل المطلوب من البشر النتيجة لتهذيب السلوك الإنساني وهذا هدف وغاية إرسال الأنبياء؟ فقد أرسلهم الله كي يعلمونا مكارم الأخلاق، فينتج عن هذا مجتمع إنساني متكامل، وذو خلق جميل، ويحترم النفس الإنسانية، وقبول للطرف الآخر المختلف عني. فقط أعطى الله سبحانه وتعالى أعطى إبليس فرصة كي يدلي برأيه، ثم جعله من المنظرين بعد عصيانه رب الأرباب، وحث القرآن الكريم أن لا إكراه في الدين، وإن الدين المعاملة، وعلمنا خاتم الأنبياء « ص » بالدروس والعمل كيفية التعامل مع البشر وغير البشر، بأعلى مراتب الخلق، وشهادة القرآن إنه صاحب الخلق العظيم.
بعيداً من تنظيرات رجال الدين وتبريراتهم وتفسيراتهم للتطرف الأصولي وأسباب تصاعده، وما نشاهده اليوم ممن ينطق الشهادتين يحز رأس ناطق للشهادتين آخر حتى يقطع أوداجه، ويكبر بعدها كقربان قدمه لله، وأنه يتقرب لله بهذا، كل هذا الانبعاث سؤالاً جوهرياً: هل ما يسود حالياً هو أثر من الدين أم من التديّن؟ اذا كان الدين في جوهره يجسد قيماً إنسانية وروحية وأخلاقية تتجاوز في طبيعتها الزمان والمكان، فإنّ ما تجري ممارسته من شعائر وطقوس وتشريعات، إنما تقع في باب التديّن الذي لا يمكن تصنيفه من جوهر الدين.
فالتشريع الذي يمكن اختزاله اليوم بالفقه واللاهوت الذي أنتجته المؤسسات الدينية واجتهادات العلماء ورجال الدين، هو الذي يقع في باب المتغيّر وفق تطور المجتمع وتغيّر مظاهر حياته. فالتشريع الوحيد المستند حقاً إلى الإرادة الإلهية، الذي يقع ضمن الثوابت، هو القانون الأخلاقي الكلي، أما سائر التشريعات فيكون انتسابها إلى الإله بمقدار مواءمتها للقانون الأخلاقي. يطرح التشريع مسألة الفقه الذي بات اليوم يفرض نفسه على الممارسات الدينية والدنيوية على السواء. المشكلة في هذا الفقه، الذي يشكل سمة عامة في الأديان، أنّ منتجيه من الفقهاء ورجال الدين باتوا يضعونه في خانة النصوص المقدسة الأصلية للأديان، ويعتبرونه نصاً إلهياً مقدساً، كل اعتراض عليه هو اعتراض على الدين الأصلي. تتجلى المشكلة في كون هذا الفقه هو، في حيز أساسي منه، انعكاساً للصراعات الاجتماعية والسياسية التي نشبت بين الفرق الدينية عندما انقسمت هذه الأديان فرقاً ومذاهب، فباتت كل فرقة تنتج الفقه المناسب لموقعها وموقفها.
كل دين محكوم بإنتاج الفقه الذي يشرح عقائده ويرشد المؤمنين الى كيفية ممارسته. لذا أستنبط المسلمون القدامى فقههم المناسب مع عصرهم، فهل يستنبط فقهاء اليوم ما يتلاءم والتطورات الفكرية والعلمية والاجتماعية والاقتصادية الخاصة بزمانهم؟ وهل سيجتهد العلماء في وضع آليه لعلاقة المسلمين مع البشر ككل؟، وخاصة إن العلاقة المعاصرة مع العالم مختلفة عن السابق، فالعالم يوجد خلطات بشرية كبرى بالمدن كل يوم، فتصبح مدينة دبي مثلاً خليط من كل دول العالم! فهل سيتوقف فقهاؤونا عن تنصيب أحد السابقين كمرشدين ومنظرين لعصر لا صلة لهم بما عاشوه وأنتجوه في ظله؟ وربما يبعد عنهم عدة قرون وأجيال؟