النموذج الذي لم يولد بعد
يعاني العالم الإسلامي من عدم قدرته على استيلاد النموذج الذي يمكن أن يدخل به في حلبة المنافسة مع النماذج التي تنتجها القوى الأخرى الحية في العالم. كان يُنتظر من ربيع الخيبة العربي أن يؤسس لانبثاق نموذج جديد ينهي حالة العقم المستحكمة، ولكنه انتهى بتوكيدها.
فالعالم الإسلامي اليوم يمر بواحدة من أعظم محنه التاريخية، إذ أنه نجح بامتياز في إنتاج الأعداد المتكاثرة من طلاب الموت الرخيص والمقتاتين على موائد العنف والكراهية والمحرضين على ذلك باسم الدين، كما نجح في ترسيخ وتثبيت الصورة الذهنية المسيئة للإسلام في أذهان الآخرين.
المشهد الدامي المتنقل من بلد إسلامي إلى آخر بعملياته الانتحارية والسيارات المفخخة والقتل على الهوية، والخطاب التكفيري الذي يستخدم التكنولوجيا «الكافرة» لنشر آرائه وبث فتاواه، والقمع الذي يتعرض له المتورطون في «جريمة» التنوير بسبب مطالبتهم بالحرية والعدالة والمساواة وحقوق الإنسان؛ كل ذلك يجعل الحديث عن انتماء الأمة لدين يأمر بالقسط ويدعو للحرية وينشر التسامح ويعد الإنسان بالرخاء والرفاه وأن يأكل من فوقه ومن تحت أرجله أمرا عصيا على التصديق عند غير معتنقي هذا الدين، بل حتى عند بعض معتنقيه وللأسف الشديد، لأنهم لم يلمسوا على أرض الواقع ما يدعم تلك الرؤية أو القراءة للدين.
لا يهم الآخرين، بشكل عام، كثيرا ما نقدمه عن الدين من قراءات مغايرة تتسم بخطاب أكثر إنسانية وأقرب للحداثة. فقد ننفق الكثير من الوقت في الدفاع عن الإسلام من خلال الكتب والمؤتمرات وغيرها مما تُستخدم فيه لغة العقل والبرهان والحجة والاستدلال، ثم يكون المردود منخفضا جدا، وما ذاك إلا لأن أغلب الناس لا يُقنعهم المنطق النظري، وإنما يجذبهم أو ينفرهم النموذج الخارجي المتجسد أمام أبصارهم.
الحضارة الغربية ممثلة في النموذج الأمريكي لا يعلم أكثر الناس شيئا عن نظرياتها وفلسفاتها، ولكنهم قد ينجذبون إليها تحت تأثير منتجاتها المختلفة على كافة الصعد العلمية والاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية.
يتحدث جوزيف س. ناي في كتابه «القوة الناعمة» عن مجموعة من الإنجازات الجاذبة لدى الولايات المتحدة، والتي منها: كون ما يقرب من نصف أكبر 500 شركة في العالم هي شركات أمريكية، واستحواذها على 62% من أهم العلامات التجارية العالمية، واجتذابها لما يقرب من ستة أضعاف المهاجرين الأجانب أكثر من ألمانيا التي تليها في ذلك، واحتلالها المركز الأول في تصدير الأفلام والبرامج التلفزيونية، والمركز الأول أيضا في الفوز بجائزة نوبل في الفيزياء والكيمياء والاقتصاد، ونشرها ما يقرب من أربعة أضعاف المقالات العالمية والدولية التي تنتجها اليابان، المنافسة التالية لها في هذا المجال، وغير ذلك.
هذه الإنجازات تتحدث ببلاغة الحقائق والأرقام وهي أصدق إنباء من الكتب، وأقدر على الإقناع والإغراء.
ما ينقصنا في العالم الإسلامي هو تحقيق النموذج الحي الذي يضمن للناس كرامتهم، ويحترم حقوقهم، ويحقق آمالهم في العيش الرغيد والحرية والعدالة، ويستثمر طاقاتهم في تحسين جودة الحياة. هذا هو التحدي الأكبر الذي لا يستشعره الكثيرون.