لنتجنب إلقاء «الذمة» وراءً
أوقفني أحدهم وهو يتكلم بحزم: «لا ينجح أيُّ أحدٍ في مشاريعه؛ إلا إذا ألقى الذمة وراءَ ظهره»، هذه الثقافة ليست عند فرد أو جماعة، بل هي منتشرة عند الكثير؛ وإن لم يصرح بها البعض، فهي ثقافة يعيش بها كثير، ويعتاش بها أكثر، وإن تنكر اللسان عن التصريح فإن المواقف تفصح عن ذلك بجلاء ووضوح!!
«الضمير الحي يجبُ أن يقتلع من جوفه حتى يتم النجاح»، هذه الثقافة الخاطئة موجودة في القديم ولا تزال تفرخ الأتباع، النجاح - في نظر هؤلاء - عدوه اللدود هذا القلب المتيقظ النابض بالحياة الذي لا يقبل الغش ولا يقبل الحرام ولا يقبل انتهاك حرمات الآخرين، هذه الرسالة التي وصلتني من ذلك الرجل تعكس عن مرحلة سيئة من عشق الدنيا والانجراف خلف حطامها الذي يعود على الكثير بالوبال، قد سيج ذلك الرجل النجاح وأطره بسياج المحرمات والانتهاكات!!
والقرآن الكريم جاء ليربي هذه النفس ويشذب نزواتها وشهواتها من أجل رفعها وتكاملها، ولهذا ندد بأصحاب الموازين الذين يغشون في تجارتهم إذ يقول الكريم في سورة عنونها باسمهم: «سورة المطففين»: «وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ * الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُواْ عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ»، فهم يأخذون حقهم كاملاً غير منقوص إذا كان هو المشتري، وتكمل السورة: «وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ»، بينما إذا كان البيع عنده مارس الظلم والبخس في حق الآخرين، ولعل البعض إذا كان هو البائع يتعمد التدليس والغش حتى يُسوق لبضاعته، والنماذج في الغش كثيرة حتى أنها أصبحت حديث المجالس.
نحن اليوم نحضر مجالس العزاء ونوبخ أولئك السفلة المنحطين الذين انتهكوا حرمة الإسلام بقتل الحسين وأصحابه، ونعيب على مواقفهم السلبية كـ: «نهب الأموال وسرقة الممتلكات وما أشبه»، ثم نمارس للأسف الشديد ذات الدور، حينما نتصدر «دكة البيع» ونترأس منصب التجارة، والأعظم أننا نغير الحق ونلبسه ثوب الباطل ونعيب على من يفعله، والعكس.
الحسيني الحقيقي ليس ذلك الشاب الذي يضع الخاتم في يده اليمنى ويطيل السجود ليبقى الأثر في جبينه، أو يبالغ في ارتداء السواد أيام المصاب، بل هو ذلك الذي يتمسك بالمبادئ والقيم التي سار عليها الحسين، وينتزع من قلبه تلك الملوثات التي تخلق بها أعداء آل محمد .
الحسيني اليوم عليه اعادة مواقفه اليومية، عليه تصحيح المسار بعد اتقان عملية التنقيب ومزاولة مهنة التفتيش عن الزلات الداخلية التي يتعرقل بها في طريقه، الوظيفة الحقيقية والصادقة للحسينيين اليوم، هي: «كنس الأخطاء المتشبثة، واستبدالها بورود حسينية زاهية»، علينا ان نعيد ترميم وتنظيف حدائق الصدور من كل الأوساخ، ثم نغرس قيم الحسين في حقولها ورباها، بالأفعال الحسنة والمواقف الطيبة والأحاديث الخلاقة النافعة.
الحسين يطلب منا أن نمارس «الاصلاح في أمة جده»، بتعديل السلوك الذاتي قبل السلوك الجمعي، والجمعي قبل الغيري، ما نراه تسابق في رشق الآخرين، وضمور في نقد الذات، وهذا ما أفرز لدينا ظهور داء الاستعلاء والكبر وتضخم أورام الأنا الخبيثة حتى شارف هذا الداء بلوغ العصمة عند الكثيرين!!
الذمة أضحت واسعة وتذرف لها الدموع، فلنبدأ في السباق ليس في نقد الغير، إنما في انتشال الخطايا من أعماقنا أولاً وثانياً وثالثاً وأخيراً، حينها سيقتدي بنا الآخرون، وهي ثقافة يقول عنها الإمام الصادق : «كونوا دعاة لنا بغير ألسنتكم»، في هذا العام يحل الحسين ضيفاً في ربوعنا مجدداً، فهل نستفيد من هذه الطلالة أم تعود حليمة لوحلها وغثائها؟!