اللعبة القذرة «1»
من يطالع تاريخ الاستبداد عبر العصور المختلفة، يكتشف أن المستبدين يتحدثون بنفس اللغة برغم اختلاف الأزمنة والأمكنة، ويمارسون نفس اللعبة في ترويض الآخرين مع الاستمرار في تحديث الآليات والتقنيات لتواكب العصر في كل إصدار جديد.
تختصر قراءة ما جرى لمسلم بن عقيل في الكوفة أثناء تأديته لمهامه سفيرا فوق العادة للإمام الحسين الكثير من صفحات التاريخ التي تفيدنا في كشف لغة المستبدين ولعبتهم القذرة.
مسلم بن عقيل الذي جاء للكوفة مبعوثا من قِبل الإمام الحسين لاستطلاع الأوضاع فيها عن كثب في ضوء استنجادها بالحسين لتخليصها من ربقة الجور والطغيان، وإبدائها الاستعداد لبيعته ونصرته.
كان مسلم أحق بالثقة التي أولاها إياه الإمام وأهلها. كان رجلا مبدئيا بامتياز، فعندما سنحت له الفرصة لاغتيال عدوه اللدود عبيد الله بن زياد أحجم عن ذلك انطلاقا من كونه ملتزما بالشرع الحنيف، متذكرا قول النبي : الإيمان قيَّد الفتك، أي منع القتل غيلة وغدرا.
أما مبعوث الاستبداد ومندوبه السامي عبيد الله بن زياد، فإنه قام بتوظيف كل إمكانيات لغة الاستبداد التي يتقنها لعزل مسلم بن عقيل عن الجماهير المتعطشة للحرية والكرامة والعدالة.
من ذلك توظيفه لمجموعة من النفعيين من كبراء الكوفة الذين يتكررون في كل مقطع تاريخي مماثل. وكان على رأسهم كُثير بن شهاب الذي قام هو وزمرته بإلقاء الخطابات المثبطة التي تبث الدعاية المسمومة، وتطلق الوعيد والتهديد لزرع الخوف في نفوس الثوار الذين أحاطوا بقصر عبيد الله بن زياد. ولا يحتاج خطاب كُثير إلى تمعن في مفرداته لاكتشاف لغته المستبدة: «أيها الناس، الحقوا بأهاليكم ولا تعجلوا الشر، ولا تعرّضوا أنفسكم للقتل، فإن هذه جنود أمير المؤمنين يزيد قد أقبلت. وقد أعطى اللهَ الأميرُ عهداً: لئن تممّتم على حربه، ولم تنصرفوا من عشيّتكم، أن يحرم ذريتكم العطاء، ويفرق مقاتلتكم في مغازي الشام، وأن يأخذ البريء بالسقيم، والشاهد بالغائب، حتى لا تبقى له بقيّة من أهل المعصية إلّا أذاقها وبال ما جنت أيديها».
كان هذا الخطاب وأمثاله جزءا من الحرب الإعلامية التي أطلقها ابن زياد حين أصدر أوامره للمرتزقة حوله بالعزف على الوترين العريقين؛ الترغيب والترهيب: «أشرفوا على الناس، فمنّوا أهل الطاعة الزيادة والكرامة، وخوفوا أهل المعصية الحرمان والعقوبة، وأعلموهم وصول الجُند من الشام اليهم».
حين نفكك لغة الخطابات تلك سنرى كيف تتم عملية إعادة صنع المفردة الدينية لتكون في خدمة المستبد، كما في «أهل الطاعة» و«أهل المعصية»، وهنا تكون اللعبة القذرة.
وللحديث بقية.