الوطن... في منعطف تفجير الدالوة

لا شك أن تلك الرصاصات، التي اخترقت أجساد شهداء الدالوة، في الفاجعة الأليمة التي ألمت بنا جميعاً في مشهدٍ لم نألفه في هذا الوطن من قبل على المدى الطويل، مستهدفةً إطفاء نور الحسين ، إنما هي رصاصات تخترق وتختبر جسد وطننا وأمننا الوطني ومناعته بقوة، في مساحات يصعب لجمها والسيطرة عليها وتأمينها بشكلٍ تام، خصوصا في ظل تلك الأجواء المشحونة الحالية التي تشهد منذ فترة زمنية تسخيناً مادياً ومعنوياً غير مسبوق في المنطقة يؤهل الواقع لما يحصل، وقد أفرز ذلك الواقع كما يعلم الجميع إفرازاته النتنة حول وطننا فمزق بلداناً مجاورة، تجاوزت فيها التراشقات الكلامية المعهودة بين الطوائف والمذاهب تلك النقاشات الحادة إلى الفعل الخارج عن قيم الإنسانية والسماء، في ظل إرادات دولية وصراعات نفوذ وتمكين سياسية معروفة. وها نحن اليوم عندما نرقب خط الزمن نتأمل فنجد كيف أن الإرهاب كان بعيداً في منفاه يوماً من الأيام كما نعلم، تنقله نشرات الأخبار وشاشات التلفاز، عن بلدانٍ بعيدة نائية ثم تلتها فيما بعد بلادٌ جارةٌ قريبةٌ مجاورة لنا، قبل أن تخترق تلك الرصاصات أجساد مواطنين أبرياء من أبناء هذا الوطن العزيز والكريم، ليصبح السماع عياناً وبصيرة، في مشهدٍ لإنتقال الكراهيات والإرهاب من بقعة إلى بقعةٍ عبر هذه المعمورة، فيما يؤكد المقولة المشهورة: «إذا حلقت لحية جارك، فاسكب الماء على لحيتك».

ولقد إنطلقت تلك الرصاصات الخائنة لتهتك حرمة أمن أقدس بلاد الله وأطهرها في الأرض - بلاد الحرمين الشريفين -، فهبت الأجهزة الأمنية في وجه هذا التحدي والإختبار الحقيقي الخطير، لتثبت مجدداً كفاءتها وجدارتها في غضون ساعات، وإن شكك المشككون، كما أثبتت ذلك من قبل في وجه تلك التحديات الأمنية التي كانت تضرب البلد قبل سنوات لأسباب مختلفة، فهو إثباتٌ للمثبت، وهذا التمكين يهمنا كثيراً بالطبع. وانطلقت تلك الرصاصات الآثمة فهب الشيعة والسنة متجاوزين كل الخلافات المريضة والنزعات السقيمة للسباب والشتائم المتبادلة التي يثيرها ويستلذ بها البعض ممن سقمت عقولهم، ليطوقوا تداعيات مثل هذا الحدث الخطير، فوقف الشيعي بجانب السني، ووقف السني بحانب الشيعي، ليثبتوا للجميع ولأولهم في سلم التحدي وهم المعتدون على حرمة الأبرياء والدماء، أنهم يدركون حقيقةً أن الإرهاب والتكفير لا ملة ولا مذهب له، وأنه لا يعبر إلا عن من ينتمون إليه، وأنهم كمواطنين شرفاء يعلمون جميعاً أنه وبالٌ على الجميع، وهنا وقفت تنديدات الجميع ضد هذا الإرهاب الأحمر، الذي تجاوز الكلام للدماء، ليثبتوا، بحسن الأقوال والأفعال، أن في الوسط السني كما في الوسط الشيعي تماماً، الكثير من العقلاء، الذين يعول على عقولهم وخطاباتهم وإراداتهم، وإن شكك البعض ممن ينظرون بنظارات سوداء في توجهات إخوانهم السنة، وإن أصابت البعض هنا أو هناك كاستثناءٍ فيروسات ثقافات الكراهيات والتكفير والقتل والإرهاب بتفاوتاتها المتنوعة والمختلفة. وهذا التضامن المولد للتقارب والتعايش يهمنا كثيراً في تحصين وقياس حصانة مجتمعاتنا من نفاذ واستمرار وانتشار مثل هذه الجرائم القذرة.

ولقد سقط شهيدا الواجب - عليهما رحمة الله ورضوانه - في هذا المشهد الدموي المؤلم، دفاعاً عن الدم الشيعي، الذي امتزج بروح الوطن، ليمتزج الدم الشيعي هنا، بالدم السني، في أصدق لوحة مأساة وطن واحدة معبرة، إرتفعت فيها راية الوطن خافقةً رغم الجراح، فأكد الحدث للجميع أن الإنتماء واحدٌ مهما تغيرت اللهجات والمذاهب والمناطق... الخ، والمصالح واحدةٌ، مهما كانت الخلافات الجانبية. فالمدافع يدافع عن الجميع بلا شك، وطننا وشعبنا ومصالحنا ومستقبلنا، وكلنا في النهاية ننتمي لدمٍ واحدٍ، ولدائرة مصالح وطنية واحدة، هي هذا الوطن الكريم، مهما أحاطت بذلك من إشكالات التطبيق على أرض الواقع. وعلى الجميع أن يعوا ذلك، ويفهموا دائرة الإنتماء والمصالح الواحدة تلك، بعيداً عن خلافاتهم وتجاذباتهم الجانبية.

وإننا لنحمد الله في عمق المأساة، على أن الإختلافات بيننا ليست كما يريدها البعض، شكلاً من أشكال صراعات العصور المظلمة، بل هي فقط ليست سوى إختلافات إخوة البيت الواحد، حيث لا يملك الأخ أن يلغي أخاه، أو أن يستغني عنه، مهما حصل بينهما من خلاف. ولو دققت في المشهد اليوم، فستجد حتماً قصصاً وحكايات هي من أروع وأجمل قصص وحكايات الأخوة والتضامن والتعايش، في زمن الشحن والتأزم. وبالطبع، فستجد أن البعض، لن يتمنى أن يسلط الضوء على تلك القصص والحكايات.

وإن الأحساء كما يعرف الجميع، منطقة تعايش معروفة، بل هي قلب هذا التعايش وهذا الإخاء القديم الحديث الذي نعيشه. ورغم أن قصص الإخاء والتعايش التي يعرفها الجميع تغطي كل تراب هذا الوطن، ورغم أننا جميعاً قد عشنا تجارب إخاء وحب ومودة عابرة للمذاهب والمناطق والفئات... الخ، لكن رغم كل شيءٍ تبقى الأحساء ذروة سنام ذلك الحب والإخاء والإلتقاء والمنطقة الخصبة لولادات الصداقات العابرة للمذاهب المتكررة وينبوع انتشارها.

وإنني قد شعرت شخصياً، رغم المأساة ورغم هواجس المستقبل ورغم طموح أن نرتقي لمستوى أفضل من وعي ومسؤولية إدارة هكذا أحداث بأدوات مناسبة وأفكار فاعلة وقوانين نافذة، بسعادة عميقة جراء تعالي الجميع إلا الشواذ من الناس فوق جراح ما حدث، سآئلاً الله في نفس الوقت بحزنٍ عميقٍ على الدماء، أن يتقبل الله شهداءنا الأبرار الذين عطرت دماؤهم المسيرة الولائية الطاهرة لأتباع آل البيت .

وكان في خضم هذا الحدث، مشهد حضور صاحب السمو الملكي وزير الداخلية الأمير محمد بن نايف، في تعزية شهداء حادثة الدالوة الأليمة - رحمهم الله -، وحضوره في تعزية ذوي شهيدي الواجب - عليهما الرحمة -، تتويجاً أيضاً للشعور بالتفاؤل والسعادة، والشعور بأن الجميع في النهاية تحت راية هوية واحدة، وتحت حماية إرادة وطنية وقانونية واحدة، مهما كان بيننا من اختلاف.

وتبقى هذه الحادثة، جرس إنذار عالي الصوت، هشمت دقاته كل حواجز الصمت، في وقتٍ سبق دوي هذا الصوت دوي أجراسٍ أخرى، نبهت لخطر تنامي التطرف والإرهاب في المنطقة. ما يوجب هنا أن يسمع هذا الصوت المواطن والمسؤول على السواء، كلٌ من موقعه، كي نحصن أمننا ومستقبل وطننا ومستقبل الأجيال التي سنترك لها أرضنا.

ولذا فالواجب هنا عقلاً، أن تأتي هنا تلك الأسئلة الهامة والحساسة، ملهمة الرؤية والبصيرة، التي يجب أن تطرح وتتداول، للتمعن في الحدث المهم، ولتدبره وقراءة عواقبه وما يجب أن يفعل إزاءه: فلماذا اختيرت هذه المنطقة «الأحساء» تحديداً؟ ولماذا اختير هذا التوقيت «ليلة العاشر» تحديداً؟ ولماذا اختيرت هذه الطريقة «الرصاص» تحديداً؟ وما دلالات كل ذلك الحدث؟ وما هي مبرراته؟ وما هي فرص تكرار ذلك الفعل؟ ومن المسؤول عن حدوثه؟ وكيف نحصن وطننا مما يجري فعلاً من تطرف، ومن تصاعد خطابات القتل والكراهية والطائفية؟ وما هي ردود الفعل السلبية التي أفرزها هذا الحادث؟ وماذا يمكن أن يفرز هذا الحدث أيضاً لاحقاً من تداعيات سلبية قد لا نتوقعها؟ وكيف سنحصن أنفسنا حاضراً ومستقبلاً؟ وكيف يمكن أن يحصن أمن هذا الوطن من قبل المسؤولين وأصحاب القرار؟ ما هو الممكن؟ وما هو المثالي والمستحيل؟ وهل نحن أمام سلسلة أحداث متتابعة - لا قدر الله -؟ أم لا؟ وما ضمانات ذلك؟ وما الذي فعلناه سابقاً سلباً أو إيجاباً قبل أن نصل إلى هنا؟ وما المطلوب الذي تأخرنا عنه ولم نتخذه في الوقت المناسب؟ وما الذي اتخذناه في الوقت المناسب؟.

إن بعض هذه التساؤلات بلا شك، أمامها الكثير من الإجابات بالطبع، على ألسنة الكثير من الناس. منها الإيجابي الذي يدفع للتفاؤل، وبعضها سلبي قد يؤجج الصراعات والإحتراب. وقد سمع بعضنا بعض ما يطرح من قبل عقلاء واعين، وأيضاً غيره مما يطرح من قبل بعض المجانين، كدعوات التسلح حفظاً للنفس، التي لا تكون إلا استعجالاً لوضعٍ مريضٍ ومأزومٍ لا نتمناه، والتي أطلقها البعض ضمن ردود فعل وأفكار غير موزونة. وهنا يجب أن نستحضر هذه الصور كلها أمامنا اليوم، لنحسب حسابات الغد بطريقة صحيحة، كي لا نقع في مأزقٍ لا تحمد عقباه.

ونحن لا نشك للحظة واحدة أن الدولة وأجهزتها الرسمية بما تعيه وتتابعه باستمرار وتدرك خطورته، قادرة، وليست غافلة عن ضرورات إتخاذ إجراءات هامة قانونية ونظامية، وعن تعزيز أدوار ثقافية وإعلامية وتعليمية وإعلائها، في قبال أخرى يجب تطويقها وحصرها، لكن التأخير في بعض المسارات التي نأمل النفاذ لها سريعاً، كمسار تجريم بث الكراهيات وتعزيزها قانوناً، ربما يكون بسبب ملابسات كثيرة مرتبطة بالواقع والزمان والمكان ومكوناتهما، تعلمها الدولة وتدرس تفاصيلها، لاتخاذ مايلزم، في أقرب وقتٍ ممكن، وهذا هو المأمول بالطبع.

وفي النهاية، فالوطن للجميع، وحمايته حماية للجميع، ولمصالح الجميع، ونحن كشعب وكأمة، نعيش في عالم تشحنه الأحداث والصراعات والتحولات والتطورات، وقد شاهدنا ولازلنا نشاهد أخطاء الشعوب والدول والأمم الأخرى من حولنا في المنزلقات الخطرة... ولا نريد بالطبع وبالتأكيد أن نكون نحن أيضاً تجربةً أخرى بائسة تضاف لسجل ما عرفناه وما شهدناه في عالم البؤساء.

وإن البعض منا بلا شك، باختلاف التوجهات والإنتماءات، إنفعاليون يغلبهم الغضب والحماس، أو متمصلحون أنانيون، مقتاتون على الفتن، أو ممن قد إعتادوا فقط لغة الإقصاء ومشاعر الكراهية تجاه الآخر المختلف، فتجدهم مبرمجون لا شعورياً على نبذ التعايش وعلى أن يفضلوا لغة نشاز وفرقعات حمقاء وأصوات حماس، في دوي تلك الأحداث الدامية التي تتطلب المزيد من الصبر والحكمة والروية، وتعجبهم تصرفات ساذجة خرقاء تذكي روح النزاع والصراع، وكأنهم قد وقفوا أمام حلبات المصارعة الحرة مؤيدين لهذا أو ذاك. ولكن بالتأكيد ليس أفضل في النهاية، من لغة هادئة وخطاب متزن عاقل وكلمات ناعمة تطيب الأنفس وتهديء القلوب، وإن كنا نعلم حجم المصاب ومستوى الشحن، لكننا بلاشك أمام حاجة ماسة للغة تؤكد الإخاء والحب والتعايش وحقيقة الإنتماء لجسدٍ واحدٍ ليس من صالحنا أن يثخن بالجراح، لغة توضع فوق هذا الحدث وجراحه، فتداوي تمزقاته وتجمع الصف. تبقى هي أفضل لغة على المستوى الشعبي لمخاطبة الإرهاب وكسر شوكته وإيقاف تمدده، وهي ماثلة كما ذكرنا في خطاب التعايش والتحاور والتعاون والبناء. والباقي بعد ذلك القدر من الممكن على المستوى الشعبي، إنما هو ما يبقى بيد أصحاب القرار والمسؤولين، لاتخاذه في سياقه المناسب.

وقد حدث من حولنا كما شهدنا ما حدث، وأصابنا منه اليوم بعض الشرر كما كان متوقعاً... لذا فالخيار المطلوب معروفٌ في النهاية، وهو التمسك بتعزيز خطاب التعايش وواقعه وتطويق خطاب الكراهية وواقعه، و«المؤمن لا يلدغ من جحرٍ مرتين» كما نعرف، وقد لدغنا مرة واحدة اليوم على الأقل، ويجب أن نأخذ العبر.

ونحن نعرف جيداً هنا، أن البعض يزعجه هذا القول وهذا الخطاب، لأنه ينشد الصراع، لكن هذا الخطاب هو الحق والنجاة وهو ما نصر على إطلاقه اليوم في وجه التصرفات والأفكار العمياء... والسلام.

ودام الوطن في النهاية حفظ الله... ورعاية ويقظة أبنائه ومواطنيه الواعين ومسؤوليه الخيرين... وفي ظل الكلمة الطيبة التي أصلها ثابتٌ وفرعها في السماء... ومجدداً هنا نختم بالسلام.